الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتولى الله قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. هـ.
وقال أبو يزيد رضي الله عنه: أولياء الله تعالى عرائس، ولا يَرَى العرائسَ إلا من كان مَحرماً لهم، وأما غيرهم فلا. وهم مخبأون عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم، من قوله:(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ، ومتابعة الهوى، وحب الدنيا، ومن قولهم:(فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تخويف الكفار للرسل بإخراجهم من الديار، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
قلت: (وَاسْتَفْتَحُوا) : معطوف على (فَأَوْحى) إن كان الضمير للرسل، واستئناف إن كان للكفار. و (يُسْقى) :
معطوف على محذوف، أي: يلقى فيها ويسْقى، و (صَدِيدٍ) : عطف بيان لماء، و (يَتَجَرَّعُهُ) : صفة لماء، أو حال من ضمير (يُسْقى) .
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ تخويفاً لهم: والله لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، حلفوا ليكونن أحد الأمرين إما إخراج الرسل من ديارهم، أو عودهم إلى ملتهم، والعود هنا بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم، كما تقدم في قصة شعيب عليه السلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول، ولمن آمن معه، فغلّب الجماعة على الواحد، وقال الذين كفروا في كل عصر لكل رسول أتاهم: لنخرجنك، أو لتُعودنَّ في ملتنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي: إلى رسلهم، مجتمعين أو مفترقين- على القولين- وقال في إيحائه: والله لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فتخلى بلادهم، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: أرضهم وديارهم،
لقوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «1» . ذلِكَ الميراث والإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي أي: قيامه للحساب بين يدي في القيامة، أو قيامي على عبادي، وحفظي لأعمالهم، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتي وجلالي، وَخافَ وَعِيدِ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار.
وَاسْتَفْتَحُوا أي: استفتح الرسل: طلبوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم، كقوله:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «2» واستفتح الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل، على نحو قول أبي جهل في غزوة بدر: اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، أي: أهلكه. أو: استفتح الفريقان معاً، فكل واحد منهما سأل الله أن يُهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن: بكسر التاء على الأمر للرسل بطلب الفتح. وَخابَ: خسر كُلُّ جَبَّارٍ: متكبر على الله، عَنِيدٍ: معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم، وهو: خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.
ثم ذكر مآل خيبتهم بقوله: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي: أمامه وبين يديه، فإنه مرْصد بها، واقف على شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، وهو ما يسيل من جلود الكفار من القيح والدم. يَتَجَرَّعُهُ: يتكلف جرعه، أي: زهوقه في حلقه. رُوي: «أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها، فإذا أدْنيت منه شوت وجهه، وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها قطعت أمعاءه» «3» . فيتجرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي: لا يقارب أن يُسيغه، أي: يبتلعه بصعوبة فكيف يُسيغه، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه لأن نفي «كاد» يقتضي الوقوع. والسوغ: جواز الشراب على الحلق بسهولة، وهذا بخلافه. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي: أسباب الموت مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أجل الشدائد التي تُحيط به من جميع الجهات. أو: من كل مكانٍ من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. وَما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح، وَمِنْ وَرائِهِ: من بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أي: يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه، وقيل: هو الخلود في النار، وقيل: حبس الأنفاس في الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل: قوله: وَاسْتَفْتَحُوا: كلام منقطع عن قصة الرسل، بل نزل في أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر في السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فخيب الله رجاءهم ولم يسقهم، وأوعدهم أن يسقيهم- بَدَلاً من سقياهم المطر- صديدَ أهل النار. قال معناه البيضاوي.
(1) من الآية 137 من سورة الأعراف.
(2)
من الآية 89 من سورة الأعراف.
(3)
أخرجه أحمد فى المسند (5/ 265) والترمذي فى (أبواب صفة جهنم، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) والحاكم فى المستدرك (2/ 351) وصححه ووافقه الذهبي، عن أبى أمامة مرفوعا.