الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر ما يكون بعد فناء الدنيا التي تقدم مثالها من أهوال الحشر والحساب، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
قلت: وَيَوْمَ: معمول لمحذوف، أي: واذكر، أو عطف على قوله:«عند ربك» ، أي: والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و (حَشَرْناهُمْ) : عطف على (نُسَيِّرُ) للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيًا وموجبًا، وقيل: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك. و (نُغادِرْ) : نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه: الغدير لما يتركه السيل في الأرض من الماء، وَفًّا)
: حال، أي: مصْطفين.
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي: حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» أو: نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره: تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ:«تُسَيَّر» بالبناء للمفعول جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لظهور تعينه، ثم قال: وَتَرَى الْأَرْضَ أي:
جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، بارِزَةً: ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون قَاعاً صَفْصَفاً، لَاّ تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «2» . وَحَشَرْناهُمْ: جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، فَلَمْ نُغادِرْ أي: لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام من
(1) الآية 88 من سورة النمل.
(2)
الآيتان 107- 108 من سورة طه. [.....]
تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. قاله أبو السعود. فًّا
أي:
مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح: «يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ
…
» «1» الحديث بطوله. وفي حديث آخر: «أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا» «2» .
يقال لهم- أي: للكفرة منهم: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو: حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث.
وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي: زعمتم في الدنيا إنه، أي: الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه. وهو إضراب وانتقال من كلام، إلى كلام، كلاهما للتوبيخ والتقريع.
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي: كتاب كل أحد، إما في يمينه أو شماله، وهو عطف على: ُرِضُوا)
، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي لتحقق وقوعه، وإيثار الإفراد للاكتفاء بالجنس، والمراد: صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً، أو في الميزان. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة، المنكرون للبعث وغيرهم، مُشْفِقِينَ: خائفين مِمَّا فِيهِ من الجرائم والذنوب، وَيَقُولُونَ، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرًا أو قطميرًا: يا وَيْلَتَنا أي:
ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات، ومستدعين لها ليهلكوا، ولا يرون تلك الأهوال، أي: يا ويلتنا احضري فهذا أوان حضورك، يقولون: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ: لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا إِلَّا أَحْصاها أي: حواها وضبطها، وجملة لا يُغادِرُ: حال محققة لِمَا في الاستفهام من التعجب، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر، كأنه قيل: ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال: لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات، أو جزاء ما عملوا حاضِراً: مسطورًا عتيدًا، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، فيكتب مالم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه بطوله البخاري فى (تفسير سورة الإسراء، باب قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ
…
) ، ومسلم فى (الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد فى المسند (1/ 453) ، والبراز (كشف الأستار/ 3534) عن ابن مسعود.