الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن تمام برهما: زيارتهما بعد موتهما، والدعاء لهما، والتصدق عليهما، ففي الحديث:«إنما الميت في قبره كالغريق، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها» . وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: (كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وأشار بيده نحو السماء)، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من طريق أبي هريرة قال: «إن الله ليرفع العبد الدرجة، فيقول: يا رب، أنَّى لي بها؟! فيقول: باستغفار ابنك لك» «1» ، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به، بعد موتهما؟ فقال:«نعم.. الصلاة عليهما- أي: الترحم والاستغفار لهما-، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» «2» .
قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ: التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، غَفُوراً لما فرط منهم عند حرج الصدر من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد لأنه أوكد منه لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدّم في سورة النساء تمام هذه الإشارة «3» . والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالإحسان إلى القرابة لقربهما من الوالدين، تعظيما لهما، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 30]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 509) ، وابن ماجة فى (الأدب، باب بر الوالدين) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى بر الوالدين) وابن ماجة فى (الأدب، باب صل من كان أبوك يصل) والحاكم فى المستدرك (2/ 3066) ، وصححه ووافقه الذهبي من حديث مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري.
(3)
راجع إشارة الآية 36 من سورة النساء.
يقول الحق جل جلاله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي: أعط ذا القربة حقه من البر، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة. وقال أبو حنيفة: إذا كانوا محاويج فقراء: أن ينفق عليهم. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أن يُؤتى قرابته من بيت المال، وَآت الْمِسْكِينَ حقه وَابْنَ السَّبِيلِ الغريب، من برهما والإحسان إليهما، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه على وجه السرف. قال ابن عزيز: التبذير في النفقة: الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله. هـ. وأصل التبذير: التفريق. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد، وهو يتوضأ:
«مَا هذَا السَّرَفُ؟ فقال: أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ فقال: نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» «1» .
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي: أمثالهم في الشر فإن التضييع والإتلاف شر. أو: على طريقتهم، أو: أصدقاؤهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي: يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي: وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي: لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجئ الرزق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل: رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله: إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
…
«2» الآية. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أي: فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا: منقطعًا بك، لا شيء عندك. وهو من قولهم: حسر السفر بالبعير: إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، أتاه صبى،
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 221) ، وابن ماجة فى (الطهارة، باب ما جاء فى القصد فى الوضوء) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2)
من الآية 67 من سورة الفرقان.