الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعاني والعلوم، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودًا وامتناعًا من قبوله. وفيه من المبالغة ما ليس في نفي مطلق الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور والجحود، وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية، فإنّ القلوب بيد الله، يُقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة في القلوب، فإذا شاء رفعها رفَعها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء، ويشدون أيديهم على الأدب لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية، والعياذ بالله.
قال القشيري: سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال: والمرادُ والمقصودُ: إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
ثم أظهر الحق تعالى جحودهم وعتوهم، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 96]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَاّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
قلت: من قرأ «كِسَفاً» بالتحريك: فهو جمع. ومن قرأ بالسكون: فمفرد. و (قَبِيلًا) : حال من «الله» . وحذف حال الملائكة لدلالة الأول عليه. و (أَنْ يُؤْمِنُوا) : مفعول ثان لمنَع. و (إِلَّا أَنْ قالُوا) : فاعل «مَنَعَ» .
يقول الحق جل جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش، عند ظهور عجزهم، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي، وغيره من المعجزات الباهرة، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده، ولا تقتضي الحكمة وقوعه، من الأمور الخارقة للعادة، كما هو ديدن المبهوت المحجوج، قالوا للنبى- عليه الصلاة والسلام في جمع من أشرافهم:
إن مكة قليلة الماء، ففجر لنا فيها عينًا من ماء، وهو معنى قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة يَنْبُوعاً عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع: يفعول، من نبع الماء إذا خرج.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي: بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة، مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي: تجريها بقوة، خِلالَها في وسطها تَفْجِيراً كثيرًا، والمراد: إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها، أو إدامة إجرائها، كما ينبىء عنه «الفاء» ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» قطعًا متعددة، أو قطعًا واحدًا، و (كَما زَعَمْتَ) : يعنون بذلك قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «2» ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي: مقابلاً نُعاينه جهرًا، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي: ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة: الزينة، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي: في معارجها فحذف المضاف. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي: لأجل رُقيك فيها وحده حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً فيه تصديقك، نَقْرَؤُهُ نحن، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه: قال عبد الله بن أميّة لرسول صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمته-: لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتَّى تأتيها، وتأتي معك بصك منشور، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول. هـ. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات، التي تخرّ لها صُم الجبال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: قُلْ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية «قال» : سُبْحانَ رَبِّي تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته. أو تنزيهًا لساحته- سبحانه- عما لا يليق بها، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة، التي تكاد السموات يتفطرن منها، أو عن طلب ذلك، تنبيهًا على بطلان ما قالوه، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً لا مَلَكًا، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه، رَسُولًا مأمورًا من قِبل ربى
(1) قرأ نافع وابن عامر وعاصم: (كسفا) بفتح السين، أي: قطعاً، جمع كِسْفة، وقرأ الباقون: بسكون السين على التوحيد، جمع «كسفة» كسدرة وسدر. انظر: شرح الهداية (2/ 390) ، والإتحاف (2/ 205) .
(2)
من الآية 9 من سورة سبأ.
بتبيلغ الرسالة، كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم، حسبما يلائم حال قومهم، ولم يكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على ربهم بشيء منها.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي: الذين حكِيتْ أباطيلهم، أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي: الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي: وما منعهم وقت مجيئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، إِلَّا أَنْ قالُوا أي: إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني: عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
قُلْ لهم من قِبَلنا تثبيتًا للحكمة، وتحقيقًا للحق المزيح للريب: لَوْ كانَ أي: لو وُجد واستقر فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ قارين ساكنين فيها، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدة بالقوة القدسية، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وكفى به شهيدًا، ولم يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة، وإبانة للمباينة، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ من الرسل والمرسل إليهم، خَبِيراً بَصِيراً محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام وتهديد للكفار، والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية، وسوء الظن بهم، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا، فلا كرامة أعظم من