الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا أي: بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا حَسَنَةٌ: حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
ثم قال: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ لكل ما يشغل عن الله الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام: سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد أضدادهم، الذين قالوا فيما أنزل لهم:(أساطير الأولين)، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 37]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)
يقول الحق جل جلاله: لْ يَنْظُرُونَ
أي: ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي: هو أساطير الأولين، لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
: قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم فى الدنيا، ذلِكَ
أي: مثل ذلك التكذيب والشرك، عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، فأصابهم ما أصابهم، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم.
فَأَصابَهُمْ جزاء سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا من الكفر والمعاصي، وهو العذاب، وَحاقَ أي: وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به. والحيْق لا يكون إلا في الشر.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة، والاحتجاج على صحة فعلهم، أي: إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله، فهو صواب، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب: أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك، وتحريم ما أحل الله، ونحن مكلفون باتباع الشريعة، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة فإنه زندقة فالشريعة رداء الحقيقة، فمن خرق رداء الشريعة، وتمسك بالحقيقة وحدها، فقد استحق العقاب، ولذلك قال تعالى: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا بالله، وحرموا ما أحل الله، وردوا رسله.
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: الإبلاغ الموضح للحق فمن تمسك بما جاءوا به فهو على صواب، ومن أعرض عنه فهو على ضلال، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، طاعة كان أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لكن الأمر غير تابع للإرادة، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغذاء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي- أي: المعتدل- ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويعييه، فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا قائلاً: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي: يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم، ولم يُرد إرشادهم فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب، كما ظن المشركون، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل، فقال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كعاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون.
ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال: إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي: من يريد إضلاله وقضى بشقائه وهو الذي حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول «1» ، وهو أبلغ، أي: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي من يضله، أي: لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليس لهم من ينصرهم يدفع العذاب عنهم.
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: «يهدى» بفتح الياء وكسر الدال، على البناء للفاعل، أي: لا يهدى الله من يضله. وقرأ الباقون: «يهدى» بضم الياء وفتح الدال، على البناء للمفعول، يعنى: من أضله الله فلا هاديَ له. انظر الإتحاف (2/ 184) والبحر المحيط (5/ 47) .