الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدِّيق، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه.، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: في حقه: «إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى» ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية.
ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة، مما تبرزه القدرة الأزلية، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة، حيث تعجبت، وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «1» وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك، هل يكون بنكاح أم لا، والله تعالى أعلم.
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين، أو كبيرًا في نفسه.
فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام، ويشوقه إلى مقام أحسن منه، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جواب أبيه له، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 46 الى 48]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عند ما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب
…
الخ.
يقول الحق جل جلاله: قالَ له أبوه في جوابه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن وعظك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، وَاهْجُرْنِي أي: واتركني مَلِيًّا أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرنى واهجرني.
(1) الآية 72 من سورة هود.
قالَ له إبراهيم عليه السلام: سَلامٌ عَلَيْكَ مني، لا أصيبك بمكروه، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة، أي: لا أشافهك بما يؤذيك، ولكن سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي: أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1» . أو: بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب:«لا أزال أستغفر لَكَ مَا لَم أُنهَ عنك» . ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة. فالنهي من طريق السمع، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم، وكذا قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «2» وقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «3» إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه، بدليل قوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» .
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي: بليغًا في البر والألطاف، رحيمًا بي في أموري، قد عوَّدني الإجابة.
أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه، وفي القاموس: حَفِيَ كَرَضِيَ، حَفَاوةً. ثم قال: واحتفًا: بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله، فهو حافٍ وحفي. هـ.
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: أتباعد عنك وعن قومك، وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني، حيث لم تؤثر فيكم نصائحى، وَأَدْعُوا رَبِّي: أعبده وحده، أو أدعوه بطلب المغفرة لك- أي قبل النهي- أو: أدعوه بطلب الولد، كقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «5» ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة: انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته، وإن كان أقرب الناس إليه، فكيف بك أيها المؤمن ألَاّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره، أو يجحد نبيه ورسوله، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه، غيرةً منك على محبوبك، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق، إذ ليس في الوجود إلا الحق، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
(1) الآية 86 من سورة الشعراء.
(2)
فى الآية 4 من سورة الممتحنة.
(3)
من الآية 86 من سورة الشعراء.
(4)
الآية 114 من سورة التوبة.
(5)
الآية 100 من سورة الصافات.