الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَفَى عنهم فقه الآيات، بعد ما نفى عنهم فقه الدلالات المنصوبة في الأشياء بيانًا لكونهم مطبوعين على الضلالة، كما صرح به في قوله: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية تكنها، وتحول بينها وبين إدراك الحق وقبوله. فعلنا ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلاً وصممًا يمنعهم من استماعه. ولمَّا كان القرآن معجزًا من حيث اللفظ والمعنى، أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وإدراك اللفظ. قاله البيضاوي.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي: واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى: وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك لِمَا في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي: بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي: ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ، وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي: إذ يقولون: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، فَضَلُّوا عن الحق في جميع ذلك، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات: الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتا. و «أَإِذا» : ظرف، والعامل فيه: ما دلّ عليه قوله:
(لَمَبْعُوثُونَ) ، لا نفسه لأن ما بعد «إن» والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي: أنُبعث إذا كنا عظامًا.. الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم في سورة «الأنعام» «1» تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالجواب عما أنكروه من البعث، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 52]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً (52)
(1) راجع إشارة الآية 25 من سورة الأنعام.
قلت: (قَرِيباً) : خبر كان، أو ظرف له على أن «كان» تامة، أي: عسى أن يقع في زمن قريب. و (أَنْ يَكُونَ) :
إما: اسم «عَسى» وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي: عسى أن يكون البعث قريبًا، أو: عسى أن يقع فى زمن قريب. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : منصوب بمحذوف اذكروا يوم يدعوكم. أو: بدل من «قريب» على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و (بِحَمْدِهِ) : حال من ضمير (فَتَسْتَجِيبُونَ)، أي: منقادين له، حامدين له لما فعل بكم.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ يا محمد لمن أنكر البعث: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ أي: يعظم فِي صُدُورِكُمْ عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم إذ القدرة صالحة لكل ممكن.
ومعنى الأمر هنا: التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئًا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، فَسَيُنْغِضُونَ يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبًا واستهزاءً، وَيَقُولُونَ استهزاء: مَتى هُوَ أي: البعث، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، فَتَسْتَجِيبُونَ أي: فتبعثون من القبور بِحَمْدِهِ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل: إنهم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم: كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإنَّ الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته. فسيقولون: من يعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل: الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم تعجبًا واستغرابًا، ويقولون:
متى هو هذا الفتح؟! قل: عسى أن يكون قريبًا يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هى أحسن، كما قال تعالى: