الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت، لِنَعْلَمَ علم مشاهدة، أي: ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًّا كتعلقة أولاً تعلقًا استقباليًّا، أَيُّ الْحِزْبَيْنِ: الفريقين المختلفين في مدة لبثهم المذكور في قوله: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً
…
الخ، أَحْصى أي: أضبط لِما لَبِثُوا: للبثهم، أَمَداً أي: غاية، فيظهر بذلك عجزهم، ويُفوضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، من حفظ أبدانهم وأديانهم، فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته وعلمه، وليتيقنوا به أمر البعث، ويكون ذلك لطفًا بمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفارهم، وعبرةً لمن يأتي بعدهم، فهذه حِكَمُ إيقاظهم بعد نومهم، والله عليم حكيم.
الإشارة: عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وآيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
ثم تمّم قصتهم، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 16]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
قلت: (بِالْحَقِّ) : إما صفة لمصدر محذوف، أو حال من ضمير «نَقُصُّ» ، أو من «نَبَأَهُمْ» ، أو صفة له، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته، أي: نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق، أو نقصه متلبسين بالحق، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. وإِذْ قامُوا: ظرف لربطنا، وشَطَطاً: صفة لمحذوف، أي:
قولاً شططًا، أي: ذا شطط، وُصِف به للمبالغة. و (هؤُلاءِ) : مبتدأ، وفي اسم الإشارة: تحقير لهم، و (قَوْمُنَا) : عَطْفُ بيانٍ له. و (اتَّخَذُوا) : خبر، و (ما يَعْبُدُونَ) : موصول، عطف على الضمير المنصوب، أو مصدرية، أي: وإذ
اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله، أو عبادتهم إلا عبادة الله، وعلى التقديرين: فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان، ويجوز أن تكون (ما) نافية على أنه إخبار من الله- تعالى- عن الفتية بالتوحيد، معترض بين «إِذِ» وجوابه العامل فيها.
يقول الحق جل جلاله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر، قصصًا ملتبسًا بِالْحَقِّ: بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم، حسبما ذكر محمد بن إسحاق: أنه قد مرج أهل الإنجيل، وظهرت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا:«دقيانوس» فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية: تبعه وصنع ما يصنع، ومن آثر عليها الحياة الأبدية: قتله وقطع آرابه «1» ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتيةُ ذلك، وكانوا عظماء مدينتهم، وكانوا بني الملوك، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى، واشتغلوا بالصلاة والدعاء، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار، فأحضروهم بين يديه، فقال لهم ما قال، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فقالوا: إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا، لن ندعو من دونه أحدًا، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا، فاقض ما أنت قاض، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة، وأخرجهم من عنده. زاد في رواية: وضمنهم أهلهم، وخرج إلى مدينة (نينوى) لبعض شأنه، وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم، وإلَاّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا، فتصدقوا ببعضه، وتزودوا بالباقي، فأَوَوْا إلى الكهف. وفي رواية: أنهم مروا بكلب فتبعهم، على ما يأتي في شأنه، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار، ويبتهلون إلى الله- سبحانه- بالأنين والجُؤَار، ففوضوا أمر نفقتهم إلى «يمليخا» ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان، ويلبس ثياب المساكين، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم، ويتحسس ما فيها من الأخبار، ويعود إلى أصحابه، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم، وأحضر آباءهم، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم، وبذروها في الأسواق، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى «يمليخا» ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي، ومعه قليل من الزاد، فأخبرهم بما شهد من الهول، ففزعوا إلى الله- عز وجل وخروا له سُجدًا، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم، فبينما هم كذلك
(1) أي أعضاءه. واحده: إرب.. انظر اللسان (أرب 1/ 55) .
إذ ضرب الله على آذانهم فناموا، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج «دقيانوس» في طلبهم بخيله ورَجله، فوجدهم قد دخلوا الكهف، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله، فلما ضاق بهم ذرعًا، قال قائل منهم: أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا جُوعًا وعَطَشًا، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى، إذ قال:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ، استئناف بياني، كأن سائلاً سأل عن حالهم، فقال: إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنهم، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: قويناهم، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان، والنعيم والإخوان، واجترءوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر، والرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي: انتصبوا لإظهار شعار الدين، قال مجاهد: خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم: إني لأجد في نفسي شيئًا، إن ربى هو ربُّ السمواتِ والأرضِ، فقالوا: نحن أيضًا كذلك، فقاموا جميعًا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل: قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى: (هؤُلاءِ
…
) الخ: منقطعًا صادرًا عنهم، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لا استقلالاً ولا اشتراكاً، ولم يقولوا: ربًا للتصميم على الرد على المخالفين، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: قولاً ذا شطط، وهو الجور والتعدي، أي: لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، فيه معنى الإنكار، لَوْلا: هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ:
على ألوهيتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ: بحجة ظاهرة، فَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه فإنه أظلم من كل ظالم.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي: فارقتموهم وَفارقتم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: فالتجئوا إليه، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يبسط لكم ويوسع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين، مِرفَقاً: ما ترتفقون به، أي: تنتفعون، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد وصف الله- تعالى- أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً: أي: زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله: إِذْ قامُوا: قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي: الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت: الحاصل: أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب: قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله- تعالى- وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله- عز وجل في أصحاب الكهف: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وإن كانت الآية لها محامل أخر سوى هذا. هـ. قلت: وقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «1» : صريح في الجواز.
وقال في القوت: وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه: أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا؟ فقال: «لا، بل أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» «2» ، وقال لآخر: أظهر صوته بالآية: «أِسْمِع الله عز وجل ولا تُسَمِّع» ، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله:(لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا) لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.
(1) من الآية 151 من سورة آل عمران.
(2)
أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (4/ 159) ، والطبراني فى الكبير (17/ 295) ، عن عقبة بن عامر، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (9/ 372) . [.....]