الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ هي مسكنهم، كُلَّما خَبَتْ خمدت زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدًا، أي: كلما سكن لهبها، وأكلت جلودهم ولحومهم، ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه، زدناهم توقدًا بأن بدلناهم جلودًا غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة. ولعل ذلك عقوبة على إنكارهم البعث مرة بعد مرة، ليروها عيانًا، حيث لم يعلموها برهانًا، كما يُفصح عنه قوله: ذلِكَ أي: ذلك العذاب جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا العقلية والنقلية، الدالة على وقوع الإعادة دلالة واضحة. وَقالُوا منكرين البعث أشد الإنكار: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي: أنوجدُ خلقاً جديداً بعد أن صِرنا ترابًا؟ و «خَلْقاً» : إما مصدر مؤكد من غير لفظه، أي: لمبعوثون مبعثًا جديدًا، أو حال، أي: مخلوقين مستأنفين.
الإشارة: من يهده الله إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها، يهديه أولاً إلى صحبة أهلها، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يُضلله عنها، فلا ينظر ولا يهتدي إلى صحبة أهلها، فيُحشر يوم القيامة محجوبًا عن الله، كما عاش محجوبًا. يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، لا يُبصر أسرار الذات في مظاهر النعيم، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية في زمانه، وقال: لا يمكن أن يبعث الله من يحيي الأرواح الميتة بالجهل بالمعرفة الكاملة.
وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية، وتحجير على الحق. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل عموم قدرته، فقال:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 99 الى 100]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَاّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
قلت: (وَجَعَلَ) : عطف على «قادِرٌ» لأنه في قوة قدر، أو استئناف. و (لَوْ أَنْتُمْ) : الضمير: فاعل بفعل يُفسره ما بعده، كقول حاتم:
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني «1» .
وفائدة ذلك الحذف والتفسير للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
(1) مثل لحاتم الطائي، انظر ديوانه (26) .
يقول الحق جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أوَ لم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من غير مادة، مع عِظمها، قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصِّغر والحقارة. على أن المثل مقحم، أي: على أن يخلقهم خلقًا جديدًا فإنهم ليسوا أشد خلقًا منهم، ولا الإعادة بأصعب من الإبداء، وَجَعَلَ لَهُمْ أي: لموتهم وبعثهم أَجَلًا محققاً لا رَيْبَ فِيهِ وهو: القيامة. فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا، وضع الظاهرَ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه.
قُلْ لهم: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم، خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مخافة النفاد بالإِنفاق، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى جود الله سبحانه، إلا من تخلق بخلق الرحمن من الأنبياء وأكابر الصوفية. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغًا في البخل لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني: أن طبع الإنسان ومنتهى نظره: أن الأشياء تتناهى وتفنى، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو يخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الأرزاق ما يريد، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت: ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا)، فكأن الحق تعالى يقول لهم: لو كانت بيدكم خزائن رحمته، لخصصتم بالنبوة من تريدون، لكن ليست بيدكم، ولو كانت بيدكم تقديرًا، لأمسكتم خشية الإنفاق لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر، فهو كقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ «1» ، بعد قوله: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «2» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة، وأن يفنى ألف عالم في لحظة، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته الحسي هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة، على حسب ما سَبق له في المشيئة، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه، فلا يجحد هذا إلا مَن كان ظالماً كفورًا.
قل لمن يخصص الولاية بنفسه، أو بأسلافه، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم خشية أن ينفد ما عندكم، وكان الإنسان قتورًا، لا يُحب الخير إلا لنفسه.
(1) الآية 9 من سورة ص.
(2)
الآية 4 من سورة ص.