الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا، لما فَعَلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى، كأنه قيل: فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك.
و «أثاثًا» : تمييز، وهو متاع البيت، أو ما جد منه، و «رِءْيًا» : كذلك، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر، قال ابن عزيز:«رءيا» بهمزة ساكنة: ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة، وبغير همز: يجوز أن يكون على معنى الأول «1» ، ويجوز أن يكون من الريّ. أي: منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا، بالزاي المعجمة، في قراءة ابن عباس، يعني هيئة ومنظرًا. هـ.
الإشارة: رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله، وتمكين اليقين من القلوب، واطلاعها على أسرار الغيوب، مع القيام بوظائف العبودية، أدبًا مع عظمة الربوبية، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كَمِّلْ حقيقتك التي لم تَكْمُلِ
…
والجسم دعه في الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار، وأنشدوا:
بالقوت إحياءُ الجسوم، وذكره
…
تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم
…
حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح.
وأما من عَظُمَ جهلُه، وكَثُفَ حجابه، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه، وهذه نزعة جاهلية، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير:(أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا) ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «2» . وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى مدد الفريقين أهل الضلال وأهل الإيمان، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 75 الى 76]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
(1) أي: هو مهموز الأصل، أي: منظرا، من الرؤية، سهلت همزته بإبدالها ياء، ثم أدغمت الياء فى الياء. [.....]
(2)
الآية 7 من سورة الروم.
قلت: «ويزيد» : عطف على «فليَمدُد» لأنه في معنى الخبر، أي: من كان في الضلالة يمده الله فيها، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم، أو عطف على «فسيعلمون» ، وجمع الضمير في (رَأَوا) وما بعدها باعتبار معنى (مَنْ) ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ يا محمد: مَنْ كانَ مستقرًا فِي الضَّلالَةِ مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور، مشتغلاً بالحظوظ الفانية، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي: يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ، إما استدراجًا، كما نطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» ، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «2» ، أو:(فَلْيَمْدُدْ لَهُ) : يدعه في ضلاله، ويمهله في كفره وطغيانه، كقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» . والتعرّض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جل جلاله لَمّا بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم، كما بيَّن ذلك بقوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فهو غاية للحد الممتد، أي: نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بالقتل، والأسر، وغلبة أهل الإيمان عليهم، وَإِمَّا السَّاعَةَ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان، و «إما» هنا: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون، فيعلمون أنهم شر مكانًا، لا خير مقاما، وَيعلمون أنهم أَضْعَفُ جُنْداً أي: جماعة وأنصارًا، لا أحسن نَدِيًّا، كما كانوا يدعونه، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا، يفتخرون بهم في الأندية والمحافل، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي: كما يمد لأهل الضلالة زيادة في ضلالهم، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ثوابًا على طاعتهم لأن كلا يجزي بوصفه، فلا تزال الهداية تنمو فى
(1) من الآية 178 من سورة آل عمران.
(2)
من الآية 37 من سورة فاطر.
(3)
من الآية 110 من سورة الأنعام.