الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ: خبر «إنَّ» الأولى.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما ذكر من الآيات البينات، أو بكل ما يجب الإيمان به- فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا- أي: آمنوا بذلك، بهداية الله وإرادته، وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ، وهم قوم من النصارى، اعتزلوهم، ولبسوا المسوح، وقيل: أخذوا من دين النصارى شيئًا، ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم أصلين: نورًا وظلمة، ويعتقدون تأثير النجوم. وَالْمَجُوسَ وهم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور، والشر من الظلمة، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وهم عبدة الأصنام من العرب وغيرهم، فهذه ستة أديان، خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاء واحدًا، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر، بإظهار المحق من المبطل، فيُكْرم المحق ويهين المبطل، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: عالم بكل شيء، مراقب لأحواله، حافظ له، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة:
إجراء جزائه اللائق عليه، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين، أو مع عامة أهل اليمين.
وبالله التوفيق، ثم برهن على كونه شهيدا على الأشياء بسجودها له، وخضوعها من هيبته، فقال:
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
يقول الحق جل جلاله: أَلَمْ تَرَ، أيها السامع، أو مَن يتأتى منه الرؤية، أي: رؤية علم واستبصار، أو:
يا محمد، علمًا يقوم مقام العيان، أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ أي: ينقاد إليه انقيادًا تامًا مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِن الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون «من» : عامة للعاقل وغيره،
فيدخل كل ما في السموات من عجائب المصنوعات، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله:
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، من عطف الخاص على العام لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية: (ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر، إلا يقع ساجدًا حين تغيب، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له) . وذكر في صحيح البخاري: «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» «1» . وقال مجاهد: (سجود الجبال والشجر والدواب: تَحَوُّلُ ظِلَالِها) . أو سجودُها: طاعتها فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ حيث امتنع من هذا السجود، الذي هو سجود عبادة لكفره وعتوه. قال ابن عرفة: قوله: «وكثير» : يحتمل كونه مبتدأ، ويكون في الآية حذف المقابل، أي: وكثير من الناس مثاب، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. هـ. وقدَّره غيرُه: وكثير من الناس يسجدون، وكثير يأبى السجود فحق عليه العذاب. وقيل: وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة، وإن سجد للصانع كالفلاسفة واليهود والنصارى. هـ.
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي، فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة، أو يوم القيامة، بل يذل ويهان، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ في ملكه يُكرم من يشاء بفضله، ويُهين من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك، إِنك على كل شيءٍ قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد تجلى الحق جل جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء، وبأنوار صفاته لظاهرها، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، فعرفه كلُّ شيء، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم:«أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء، فما جَهِلَكَ شيءٌ» . فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني، وخاضعة للكبير المتعالي، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني، ولم يقف مع حس الأواني، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن، إلاّ مَن أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
(1) أخرج البخاري فى (التوحيد باب: وكان عرشه على الماء) ، ومسلم فى (الإيمان، باب: الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان)، عن أبى ذر قال: دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فلما غابت الشمس قال:«يا أبا ذر تدرى أين تذهب هذه؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب، وتستأذن فى السجود، فيؤذن لها
…
» الحديث.