الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل، تنبيهًا على عدم نسخه، وأنه ماض نافذ. قاله في الحاشية.
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد، أي: نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه، أو نزيد في مضاعفة عذابه، لكفره وافترائه على الله سبحانه، واستهزائه بآياته العظام، ولذلك أكده بالمصدر، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ، قال مكي: حرف الجر محذوف، أي: نرث منه ما يقول. هـ. والظاهر أن (ما) : بدل من الضمير، وهو الهاء، أي: نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول، أي: ننزع منه ما آتيناه، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري: فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه: (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) ، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله، ويتفاوت الناس في العهد عند الله، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته، وسيأتي في قوله: لَاّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «1» زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.
ثم ردَّ على أهل الضلالة ما زعموا، من نفع الأصنام لهم، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 84]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
يقول الحق جل جلاله: واتخذ المشركون الأصنام آلِهَةً يعبدونها من دون الله لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا يوم القيامة، ووصلة عنده يشفعون لهم، كَلَّا لا يكون ذلك أبدًا، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي: تجحد الآلهة عبادتَهم لها، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا، أو: سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها، كقوله: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي: تكون الآلهة، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا، ضدا للعز،
(1) الآية 87 من هذه السورة.
(2)
من الآية 23 من سورة الأنعام.
أي: ذلاً وهوانًا لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذامًّا» «1» . وتكون عونًا عليهم، وآلة لعذابهم، حيث تجعل وقود النار وحَصَب جهنم، أو تكون الكفرة ضدًا وأعداء للآلهة، كافرين بها، بعد أن كانوا يُحبونها كحب الله، ويعبدونها من دون الله، وتوحيد الضد لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم، فإنهم بذلك كشيء واحد، كقوله عليه الصلاة والسلام:«وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سواهم» «2» .
وسبب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان، وَفَاء بقوله: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «3» كما قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي: سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم، بقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ «4» الآية.
وهذا تعجيب لرسوله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة، العتاة المردة، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل، والتمادي في الغي، والانهماك في الضلال، والتصميم على الكفر، من غير صارف يلويهم، ولا عاطف يثنيهم، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا أن له مسوغًا في الجملة، أي: ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم، كما يوهمه تقليل الرؤية، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين، كما ينبئ عنه قوله تعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان، معناهما: شدة الانزعاج، وجملة (تَؤُزُّهُمْ) : حال مقدرة من الشياطين، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام، كأنه قيل: ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) .
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم، وتطهرُ الأرض من فسادهم، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي: لا تستعجل بهلاكهم، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا، ثم نأخذهم أخذًا. والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار 4/ 218) من حديث السيدة عائشة. وقال الهيثمي فى المجمع: (10/ 228) : رواه البزار من طريق قطبة بن العلاء عن أبيه، وكلاهما ضعيف. وورد معنى الحديث عند الترمذي، ولفظه:«من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه» .
(2)
طرف من حديث أخرجه أحمد فى المسند (1/ 122) وأبو داود فى: (الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر) ، والنسائي فى (القسامة، باب القود بين الأحرار والعبيد) من حديث سيدنا على.
(3)
من الآية 39 من سورة الحجر.
(4)
من الآية 64 من سورة الإسراء 43. [.....]