الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَبَعاً في الكفر، وتكذيب الرسل، والإعراض عن نصحهم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟.
قالُوا، أي: رؤساؤهم، في جوابهم واعتذارهم: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أي: لو هدانا الله للإيمان، ووفقنا إليه لهديناكم، ولكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا، أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ: من مهرب ومنجى، ويحتمل أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا.. إلخ، من كلام الفريقين معاً، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثم يقولون: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
الإشارة: إذا ترقى العارفون، ومَن تعلق بهم، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وبرزوا لشهود الله في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وتنزهوا في حضرة الأسرار، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار، بقي ضعفاء اليقين الذين تعوقوا عن صُحبتهم، في غم الحجاب، وتعب الحس والخواطر، مسجونين في سجن الأكوان، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه: إنا كنا لكم تبعا، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب، وسقوط الدرجة؟ فيقولون: لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا، وفزعوا على ما فاتهم، فلا ينفعهم ذلك فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسفلين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم.
وسيأتي- إن شاء الله- الحديث عند قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» .
ثم ذكر خطبة الشيطان على أهل النار، فقال:
[سورة إبراهيم (14) : آية 22]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
قلت: (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) : الاستثناء منقطع، ويجوز الاتصال، و (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : مصدرية، أو موصولة اسمية، و (مِنْ قَبْلُ) : يتعلق بأشركتمون، وعلى الثاني: بكفرت.
(1) الآية 17 من سورة السجدة.
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ الشَّيْطانُ، أي: إبليس الأقدم لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي: أمر الحساب، وفرغ منه، ودخل أهل الجنةِ الجنة، وأهلُ النارِ النارَ. رُوي أنه يُنصب له منبر من نار، فيقوم خطيباً في النار على أهل النار، يعني على الأشقياء من الثقَلين، فيقول في خطبته: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، أي: وعداً حقاً أنجزه لكم، وهو وعد البعث والجزاء، وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل، وهو: ألَاّ بعث ولا حساب، وإن كان واقعاً شيء من ذلك فالأصنام تشفع لكم، فَأَخْلَفْتُكُمْ، أي: فظهر خلاف ما وعدتكم، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه مجازاً. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إليها بتسويل وتزيين، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، وهو ليس من جنس التسلط، لكنه تهكم بهم، على طريقة قوله:
تحَيَّةُ بَينِهِم ضَربٌ وَجِيعٌ «1» .
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: ما تسلطت عليكم بالقهر، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتي، فَلا تَلُومُونِي فإنَّ من اشتهر بالعداوة لا يُلام على أمثال ذلك، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني حين دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة في الآية على أن العبد يخلق أفعاله لأن كسب العبد مقدر في ظاهر الأمر، لقيام عالم الحكمة، وهو رداء لعالم القدرة، فالقدرة تبرز، والحكمة تستر، وهو ما يظهر من اختيار العبد، ولا اختيار له في الحقيقة قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ «2» ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «3» .
ثم قال لهم: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ: بمغيثكم من العذاب، وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ: بمغيثي، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، أي: إني كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم في دار الدنيا، بمعنى: تبرأت منه واستنكرته، كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «4» . أو: أني كفرت بالله الذي أشركتموني معه في طاعته من قبل، حين امتنعْت من السجود. والأول أظهر.
قال تعالى: إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان، قال البيضاوي: وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. هـ.
الإشارة: ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه ان تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان، فتبادر إلى خلاص نفسك مادمت في قيد حياتك، قبل حلول رمسك «5» ، قبل أن تزل
(1) عجز بيت أوله: وخيل قد دلفت، لها نجيع. [.....]
(2)
من الآية 112 من سورة الأنعام.
(3)
من الآية 30 من سورة الإنسان، ومن الآية 29 من سورة التكوير.
(4)
من الآية 14 من سورة فاطر.
(5)
أي: دخول القبر.