الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، يقول الله تعالى، في بعض كلامه:«يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد» .
قال القشيري: ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قوما بما شاءوا، ويمنع قوما عما شاءوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت: وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سير ذى القرنين إلى جهة المشرق، فقال:
[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
قلت: مَطْلِعَ فيه لغتان: الكسر والفتح، وكَذلِكَ: خبر عن مضمر، أي: أمر ذي القرنين كما وصفنا لك، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد، أو نَجْعَلْ أي: وجدا أو جعلا كذلك، أو صفة لقوم، أي: على قوم مثل ذلك القبيل، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم، أو صفة لستر، أي: سترًا مثل ستركم.
يقول الحق جل جلاله: ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً: طريقًا راجعًا من مغرب الشمس، موصلاً إلى مشرقها، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي: الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض، قيل:
بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل: في أقل من ذلك.
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ عراة لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من اللباس والبنيان، قيل: هم الزنج، وفي اللباب: قيل: إنهم بنو كليب، وقيل: إن بني كليب طائفة منهم، وهم قوم بآخر صين الصين، على صور بني آدم، إلاّ أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب، ووجوه كوجوه الكلاب، وأكثر قُوتِهم الحوت، ومَن مات منهم أكلوه، وملأوا موضع دماغه مسكًا وعنبرًا، وحبسوه عندهم تبركًا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال: وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. هـ.
وعن كعب: أن أرضهم لا تمسك الأبنية، وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمَرْقَنْد: خرجت حتى جاوزت الصين، فقالوا لي: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلاً حتى بلغتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه، ويلبس الأخرى، وكان صاحبي يُحسن لسانهم، فسألهم فقالوا: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي عليَّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلَعت الشمس على الماء، إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربًا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج «1» . هـ. وعن مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. هـ.
وقوله تعالى: كَذلِكَ أي: أمر ذي القرنين كما وصفنا، في رفعة المحل وبسط الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل مغرب الشمس، من التخيير والاختيار، أو وجد قومًا عند مطلع الشمس كذلك، وحكم فيهم، بحكم أولئك.
أو: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ) سترًا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، ولا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. هـ. قال تعالى: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الأسباب والعُدَد، وما صدر عنه وما لاقاه خُبْراً: علمًا تعلق بظواهره وخفايا أمره، يعني: أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
الإشارة: كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية، وهي شمس القلوب، التي تكشف أستار الغيوب، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام، حتى قال قائلهم:
لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تقول: وجدها تطلع على أهل التجريد، الخائضين في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه:
أقارئين علم التوحيد
…
هنا البحور إلي تنبي
هذا مقام أهل التجريد
…
الواقفين مع ربّى
(1) قال الآلوسى معقبا: (وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغى أن يلتفت إليها ويعول عليها، وما هى إلا أخبار عن هيان بن بيان، تحكيها العجائز لصغار الصبيان) . انظر روح المعاني (16/ 36) .