الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدفعها عن الظلم باستكباره عن العبودية، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام أولياء الله لتكون مطمئنة في عبودية الحق، ذاكرة لسلطان ربوبيته، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة، وفناء الخليقة في حقيقته. هـ.
ومن مكارم الأخلاق الداخلة تحت العدل: الوفاء بالعهد، كما قال تعالى:
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 96]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قلت: وَقَدْ جَعَلْتُمُ: حال، وأَنْكاثاً: حال من الغزل، وهو: جمع نِكْث- بالكسر- بمعنى منكوث، أي:
منقوض. وأَنْ تَكُونَ: مفعول من أجله، وتَتَّخِذُونَ: جملة حالية من ضمير «تَكُونُوا» .
يقول الحق جل جلاله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ كالبيعة للرسول- عليه الصلاة والسلام وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، إِذا عاهَدْتُمْ الله على شيء من ذلك، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته، أو أسمائه، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدًا ورقيبًا، بتلك البيعة فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها: أفسدته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي: إبرام وإحكام أَنْكاثاً أي:
طاقات، أي: صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد:
تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل: هي «ريطة بنت سعد القرشية» فإنها كانت خرقاء- أي: حمقاء- تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب بها المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل: ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال: فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض لأجل أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ: بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية لكثرتها. نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية. وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
إِنَّما يَبْلُوكُمُ: يختبركم اللَّهُ بِهِ بما أمر من الوفاء بالعهد لينظر المطيع منكم والعاصي. أو: بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أهل دين واحد متفقين على الإسلام، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بعدله، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بفضله، وَلَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة سؤال تبكيت ومجازاة، عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا لتُجازوا عليه.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، كرره تأكيدًا مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِها: استقامتها عليه، والمراد: أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وَتَذُوقُوا السُّوءَ: العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ أي: لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم ثَمَناً قَلِيلًا: عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل: هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما يعدونكم، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.