الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموت، إِنْ ما هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدَّعيه من الإرسال، وفيما يَعدنا من البعث، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ: بمصدِّقين بما يقول.
قالَ هود، أو صالح- عليهما السلام بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك، متضرعاً إلى الله- عز وجل:
رَبِّ انْصُرْنِي عليهم، وانتقم منهم بِما كَذَّبُونِ أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه، قالَ تعالى إجابة لدعائه: عَمَّا قَلِيلٍ أي: عن زمان قليل، زيدت «ما» ، بين الجار والمجرور لتأكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة، أي: عن شيء قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ عما فعلوا من التكذيب، وذلك عند معاينتهم العذاب.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، لعلهم، حين اصابتهم الريح العقيم، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها: صرير الريح وصوته. وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا، وقيل: الصيحة: العذاب المصطلِم، قال الشاعر:
صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيحة
…
خرّوا لشدّثها، على الأذقان
وإذا قلنا: هم قوم صالح، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام، صاح عليهم فدمرهم. وقوله: بِالْحَقِّ أي: بالعدل من الله، يقال: فلان يقضي بالحق، أي: بالعدل، أو: أخذتهم بالحق، أي: بالأمر الثابت الذي لا دفاع له، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي: كغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والحشيش، شبههم في دمارهم بالغثاء، وهو ما يرميه السيل، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب. فَبُعْداً: فهلاكاً، يقال بَعُدَ بُعْداً، أي: هلك هلاكاً، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها، أي: فسحقاً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وهو إخبار، أو دعاء، واللام لبيان من دُعي عليه بالبُعد، كقوله: هَيْتَ لَكَ «1» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: من عادة الحق- سبحانه-، إذا أكب الناس على دنياهم، واتخذوا إلههم هواهم، بعث من يذكرهم بالله، فيقول لهم: اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، أي: أفردوه بالمحبة، واقصدوه بالوجهة، فما عبدَ الله من عبد هواه، فيقول المترفون، وهم المنهمكون في الغفلة، المحجوبون بالنعمة عن المنعم، الذين اتسعت دائرة حسهم: ما هذا الذي يعظكم، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم، ألا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، ومادروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية، فإذا تمادوا في غفلتهم، وأيس من هدايتهم، ربما دعا عليهم، فأصبحوا نادمين، حين لا ينفعهم الندم، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ. وبالله التوفيق.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
(1) من الآية 23 من سورة يوسف.
قلت: القرن: أهل العصر، سُموا به لِقران بعضهم البعض، و (تَتْرا) : حال، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى، وهو من الوتر، واحداً بعد واحد، فالتاء الأولى بدل من الواو، وأصله: وَترى، كتراث وتقوى، والألف للتأنيث، باعتبار أن الرسل جماعة، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى، فيقال: أرطى ومعزى، وقيل: مصدر بمعنى فاعل، أي: متتابعين.
يقول الحق جل جلاله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد قوم هود، قُرُوناً آخَرِينَ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ، «مِنْ» : صلة، أي: ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة أَجَلَها الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا، عطف على «أنشأنا» ، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي.
وقوله: تَتْرا أي: متواترين واحداً بعد واحد، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضا، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه، والإضافة تكون بالملابسة، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة، وهنا إلى المرسل إليهم للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى، فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب، الذي هو سبب الهلاك، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أخبار، يُسمر بها ويُتعجب منها، أي: لم يبقَ منهم إلَاّ حكايات يعتبر بها المعتبرون، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه: أحاديث النبي- عليه الصلاة السّلام- ويكون جمعاً للأحدوثة، وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً، وهو المراد هنا، فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ به وبرسله، اقتصر هنا على عدم إيمانهم، وأما القرون الأولى، فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان، وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك، وإنهاض لها إلى العمل الصالح، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده، كما قال القائل:
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه
…
فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا
وقال آخر: ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضوءه
…
يحور رمادا بعد ما هو سَاطِعُ
ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ
…
ولا بُدَّ يوماً «1» أن تُردَّ الودائع
وبالله التوفيق،
(1) فى الأصول: ولا بد من يوم.