الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غروبِها فافْعَلُوا، ثُم تَلا هذه الآية:«وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها» «1» ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة، وفيه إشارة إلى أنَّ الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية في الآخرة. وقد جاء في أهل الجنة:«أنهم يرون ربهم بكرة وعشيًا» ، هذا في حق العموم، وأما خصوص الخصوص، ففي كل ساعة ولحظة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار، وأهل الشهود والاستبصار، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية، والأمم الماضية، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة، ويُشاهدون آثارهم الداثرة، كيف رحلوا عنها وتركوها، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم، قد نما ذكرهم، وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم. فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، وأفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرا، إلى القضاء وسلموا، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى. لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب، وأجل مسمى لأعمارهم لعجل لهم العقاب.
فاصبر، أيها المتوجه إلى الله، المنفرد بطاعة مولاه، على ما يقولون، مما يُكدر القلوب، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار، حتى تغيب في حضرة علاّم الغيوب، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان محصل الاعتبار هو صرف الهمة عن هذه الدار، أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم ومن كان على قدمه، فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 131 الى 132]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
قلت: (زَهْرَةَ) : مفعول بمحذوف، يدل عليه (مَتَّعْنا) أي: أعطينا، أو على الذم، وفيه لغتان: سكون الهاء وفتحها.
(1) أخرجه بنحوه البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر) ، ومسلم (كتاب المساجد، باب فضل صلاتى الصبح والعصر) من حديث جرير بن عبد الله. ووقع عند مسلم أن الذي قرأ الآية هو جرير، راوى الحديث.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي: لا تطل نظرهما، بطريق الرغبة والميل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: أصنافًا من الكفرة، والمعنى: لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة، ولا تستحسن ذلك، فإنه فانٍ، وهو من زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: بهجتها، ثم يفنى ويبيد، كشأن الزهر، فإنه فائق المنظر، سريع الذبول والذهاب.
متعناهم بذلك، وأعطيناهم الأموال والعز في الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك، ويصرفوه في الجهاد معك، وينفقوه على من آمن معك.. أم لا؟ أو لنعذبهم في الآخرة بسببه، فلا تهتم بذلك. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي: ما ادخر لك في الآخرة خَيْرٌ، أو: ورزقك في الدنيا من الكفاف مع الهُدى، خير مما منحهم في الدنيا، لأنه مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه، فعاقبته الحساب والعقاب. وَأَبْقى فإنه لا ينقطع نفْسُه أو أثره، بخلاف زهرة الدنيا، فإنها فانية منقطعة.
فالواجب: الاشتغال بما يدوم ثوابه، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، أمره بأن يأمر أهل بيته، أو التابعين له من أمته، بالصلاة، بعد ما أمر هو بقوله:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على ما مر ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة. وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتكلف الصبر على مداومتها، غير ملتفت لأمر المعاش، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: لا نُكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا، وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى أي: لأهل التقوى.
رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أَهْلَه ضُر أو خصاصة أَمَرهُمْ بِالصّلاة، وتلا هذه الآية «1» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم خوطب به خاصة أمته، فلا تمدن عينيك، أيها الفقير، إلى ما متع به أهل الدنيا، من زهرتها وبهجتها، بل ارفع همتك عن النظر إليها، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا، فإن ذلك حمق وغرور. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا:(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)
…
الآية. وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه: يا علماء السوء دياركم هامانية، ومراكبكم قارونية، وملابسكم فرعونية، فأين السنة المحمدية؟.
ولا تشتغل بطلب رزق، فرزق ربك- وهو ما يبرز لك في وقتك من عين المنة، من غير سبب ولا خدمة- خير وأبقى، أما كونه خيرًا فلِمَا يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة، وأما كونه أبقى لأن خزائنه لا تنفد،
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الصبر، ح 9705) ، وأبو نعيم فى الحلية (8/ 176) من حديث عبد الله بن سلام.
وعزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد (7/ 67) للطبرانى فى الأوسط، من حديث ابن سلام، وقال: رجاله ثقات.