الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهلاك أهلها مع توفير مائها، وَقَصْرٍ مَشِيدٍ: مرفوع البنيان، من شاد البنيان: إذا رفعه، أو مجصّص بالشيد، أي: الجص، أي: مبنيًا بالشيد والجندل.
وقال الضحاك: كانت هذه البئر المعطلة بحضر موت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضر موت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسمى حضر موت لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له:«حنظلة بن صفوان» ، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم «1»
. هـ.
وحاصل المعنى: وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي، أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
الإشارة: ما سلّى به الرسل- عليهم السلام تسلى به الأولياء- رضوان الله عليهم- فتكذيب أهل الخصوصية سُنة ماضية، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري:
(وبئر معطلة) ، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم، (وقصر مشيد) الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. هـ. قلت: وكأنه فسر القرية بالقلب، وهلاكه: خلاؤه من نور التوحيد، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم، المطموس نورها، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالاعتبار بمن سلف من القرون المهلكة والآبار المعطلة، فقال:
[سورة الحج (22) : الآيات 46 الى 48]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
(1) ذكر البغوي فى التفسير (5/ 390) .
قلت: (أفلم) : الفاء عطف على مقدر أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا، (فإنها) : ضمير القصة، أو مبهم يُفسره ما بعده. و (لن يخلف الله وعده) : حالية، أي: ينكرون مجيء العذاب الموعود، والحال: أنه تعالى لا يخلف وعده، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر، و (إنَّ يومًا) : استئنافية، إن كانت الأولى حالية، ومعطوفة، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطأهم.
يقول الحق جل جلاله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك. والسير في الأرض: إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب. فقوله:(فتكون لهم قلوب) : راجع للسير الحسي، وقوله:(أو آذان) للسير المعنوي. هـ.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الحسية، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ عن التفكر والاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور للتأكيد، ونفي توهم التجوز لأن قلب الشيء: لبه، فربما يقال: إن القلب يراد به غير هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل.
ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه، ولو بعد حين. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي: كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدة طُوال. وقيل: تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:«يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خمسمائة سنة» «1» .
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قيل أغنيائهم) ، وابن ماجة فى (الزهد، باب منزلة الفقراء) ، من حديث أبى هريرة، وأبى سعيد الخدري رضى الله عنهما. وبنحوه أخرجه أبو داود فى (العلم، باب فى القصص) من حديث أبي سعيد الخدري.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها أي: كثيرًا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم، قد أمهلتهم حينًا وأمليت لهم، كما أمليت لكم، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال. والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة. وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي: المرجع إليَّ، فلا يفوتني شيء من أمر المستعجلين وغيرهم، أو: إلى حكمي مَرجع الكل، لا إلى غيري، لا استقلالاً ولا شركة، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله.
وفي الحِكَم: «اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك» . وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضى الله عنه:
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ: في عمى البصيرة.
…
ومن نظر الكون بالمكون: صادق، علاج السريرة
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلَاجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله:«شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان» . فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج:
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ
…
تَرى مَا لا يُرى للنَّاظِرِينَا
وأجنحةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ ريشٍ
…
إلَى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي
…
تغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا