الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور، ورؤية الحليم الغفور.
فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية، قال تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ كأنواع الطاعات، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها.. وقد تقدم تفسيرها» .
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه، أي: فهي أفضل ثَواباً أي: عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية، التي يفتخرون بها لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام، كما أشير إليه بقوله: وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي: مرجعًا وعاقبة، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق- جل جلاله يرزق العبدَ على قدر نيته، ويمده على قدر همته، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية، أمده الله فيها، ومتعه بها ما شاء، على حسب القسمة، ثم أعقبه الندم والحسرة، ومن كانت همته الآخرة، أمده سبحانه في الأعمال التي توصله إلى نعيمها، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور، وأنواع الطيبات، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله- أي: الوصول إلى حضرته دون شيء سواه- أمده الله في الأعمال التي توصله إليه، وهي أعمال القلوب من التخلية والتحلية، كالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، قد سلك الطريق على شيخ كامل، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض من مدّ له فى الضلالة وخصه بزيادة ضلالته، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
(1) راجع تفسير الآية 46 من سورة الكهف.
يقول الحق جل جلاله في حق العاص بن وائل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا: القرآن المشتمل على البعث والحساب، قال خبَّاب بن الأرَت: كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ، فاقْتَضيتُه، فقَالَ: لَا، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ،، فَقُلْتُ: لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ، قال العاص: فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيك، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة- استهزاء واستخفافًا- وفي رواية البخاري:«كُنت قَيْنَا «1» في الجاهلية، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ
…
» «2» فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها.
وَقالَ مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالاً وَوَلَداً أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد:
قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ فقال بتعريف له منا، أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: كَلَّا أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «3» قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.
(1) القين: الحدّاد والصانع، والجمع أقيان وقيون. انظر اللسان (قين 5/ 3798) .
(2)
أخرجه البخاري فى (البيوع. باب ذكر القين والحدّاد) ، وفى (تفسير سورة مريم) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب 4) .
(3)
الآية 18 من سورة ق.