الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخصلة الثالثة: التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله قال صلى الله عليه وسلم:«مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله» . وقال أيضًا: «مَن تواضعَ دُون قَدْره، رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره» . بخلاف المتكبر فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله قال تعالى:(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) . وفي الحديث: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ» «1» ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والتكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس، أي: جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وصف المتكبرين، ووبال تكبرهم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قلت: (ماذا) ، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب (أَنْزَلَ)، وأن تكون (ما) : استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا) : بمعنى «الذي» : خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي: ما الذي أنزله ربكم؟ واللام في (لِيَحْمِلُوا) :
لام العاقبة والصيرورة، أي: قالوا: هو أساطير الأولين فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل: لام الأمر، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول في (يُضِلُّونَهُمْ) ، أو من الفاعل، و (تُشَاقُّونَ) : من قرأه بالكسر فالمفعول:
ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح فالمفعول محذوف، أي: تشاقون المؤمنين من أجلهم. و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : حال من ضمير المفعول فى: «تتوفاهم» .
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه.
يقول الحق جل جلاله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي: كفار قريش: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على رسوله محمد- عليه الصلاة والسلام؟ قالُوا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول: إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه.
والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: قالوا ذلك ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ: وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم- وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال- حال كونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أنَّ الجاهل في العقائد غير معذور إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه «1» .
قال البيضاوي: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها: الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. هـ. وقال المحشي: ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. هـ. قلت: ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي: يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ، أي: بئس شيئًا يَزِرُونَهُ فعلهم هذا.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي:
قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل: أن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف «2» من أسفله.
(1) ما ذكر الشيخ هو كلام المعتزلة- عموما- أما كلام أهل السنة- فيما يختص بمن ثبت له عقد الإسلام- فهو إعذاره بالجهل، وتبليغه الحجة حتى يتبين له الحق بيانا لا يغيب على مثله، وحتى يعرف الحق ويميزه، كما يميز الشمس.. فإن أصر على فعل الشرك أو الكفر بعد هذا فهو كافر، لا عذر له، يقول الشوكانى تعليقا على حديث سجود معاذ للنبى صلى الله عليه وسلم:«وفى هذا الحديث دليل على أن من سجد- جاهلا- لغير الله، لم يكفر» وقال فى السيل الجرار: «فلا بد من شرح الصدر بالكفر، فلا اعتبار بما يقع من طوارئ عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لعقائد الإسلام، إلى غير ذلك مما قرره ابن العربي، والقاسمى، وابن القيم وغيرهم، فى هذه المسائل. فتأملها لأنها خطيرة جدا، فعدم إحكام هذه الأصول يوقعنا فى جحيم تكفير جهلة المسلمين. والأمر لله.
(2)
يقال: جعفه جعفا: قلبه وقلعه. فانجعف. انظر اللسان: (جعف) .
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ: يذلهم ويعذبهم بالنار، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ، أضافها إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا زيادةً في توبيخهم، أي: أين الشركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ:
تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ: الذلة والعذاب عَلَى الْكافِرِينَ. وفائدة قولهم ذلك لهم: إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي: إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. هـ. أي: فيقولونه اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا: الحمد الله الذي هدانا لهذه الهداية.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تَقبِضُ أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بأن عرضوها للعذاب المخلد، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي: استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب اعتصامًا به، كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «1» ، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن: هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
«2» ، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم: بَلى قد كنتم تعملون السوء والعدوان، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه. وقيل: إن قوله: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عز وجل: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله:(بلى) ، هو الله تعالى، أو: أولوا العلم، ويُقوي هذا قوله بعده: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ لأن دخولها لا يكون إلَاّ بعد البعث والحساب، لا بعد الموت إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي: التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى أي: مقام الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم.
الإشارة: وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار: ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم من المواهب وأسرار الخصوصية؟ قالوا: أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم
(1) كما حكى عنهم الله تعالى فى الآية 23 من سورة الأنعام. [.....]
(2)
من الآية 130 من سورة الأنعام.