الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَاّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
قلت: (جَنَّاتِ عَدْنٍ) : بدل من الجنة، بدل بعض لاشتمالها عليها، وما بينهما اعتراض، أو نصب على المدح. و (إِلَّا سَلاماً) : منقطع، أي: لكن يسمعون سلامًا، ويجوز اتصاله، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة، فإن أهل الجنة أغنياء عنه، فهو داخل في اللغو. و (بِالْغَيْبِ) : حال من عائد الموصول، أي: وعدها، أو من العباد، و (مَأْتِيًّا) : أصله مأتوي، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحق جل جلاله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: جاء بعد أولئك الأكابر، خَلْفٌ أي: عقب سوء، يقال لعقب الخير «خَلْفٌ» بفتح اللام، ولعقب الشر «خَلْفٌ» بسكون اللام، أي: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء، أَضاعُوا الصَّلاةَ أي: تركوها وأخروها عن وقتها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من شرب الخمر، واستحلال نكاح الأخت، من الأب، والانهماك في فنون المعاصي، وعن على رضي الله عنه: هم من بَني المُشيد، وركب المنضود، ولبس المشهور. قلت: ولعل المنضود: السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. هـ. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا: شرًا، فكل شر عند العرب غيٌ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس: الغيُّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه، أُعد للزاني المصرِّ، ولشارب الخمر المدمن، ولأهل الرياء والعقوق والزور، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. هـ.
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، هذا يدل على أن الآية في الكفار. فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم، أو يُدخلهم الله الجنة، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً: لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم، ولا ينقص أجورهم، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.
جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: إقامةٍ، لإقامة داخلها فيها على الأبد، الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي: ملتبسين بالغيب عنها لم يروها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو ملتبسة بالغيب، أي: غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يأتيه من وعُد به لا محالة، وقيل: هو مفعول بمعنى فاعل، أي: آتيًا لا محالة، وقيل: مأتيًا: منجزًا، من أتى إليه إحسانًا، أي: فعله.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي: فضول كلام لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث:«مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» «1» . وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. إِلَّا سَلاماً، أي: لا يسمعون لغوًا، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي: على قدرهما في الدنيا، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدًا. قال القرطبي: ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، أي: ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري: الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار، والقصد: أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. هـ.
وسيأتي عند قوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ «2» كيفية أرزاقهم.
قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ: مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها، أي: تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي الَّتِي نُورِثُ أي: نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا لله بطاعته واجتناب معاصيه، أي: نُديمها عليهم بتقواهم، ونمتعهم بها، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل: يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا وأطاعوا، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
…
الآية تنسحب على مَن كان أسلافه صالحين، فتنكب عن طريقهم، فضيّع الدين، وتكبر على ضعفاء المسلمين، واتبع الحظوظ والشهوات، وتعاطى الأمور العلويات، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه، أو بالجاه والمال، كان أغرق في الغي والضلال، يصدق عليه قول القائل:
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا
…
خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت
…
نِعم الجدود، ولكن بئس ما خلَّفوا
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد باب 11) ، وابن ماجة فى (الفتن، باب: كف اللسان فى الفتنة) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(2)
الآية 71 من سورة الزخرف.