الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم شرع فى قصة أهل الكهف المقصودة بالذات، فقال
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
قلت: (أَمْ) : منقطعة مقدرة ببل، التي هي للانتقال من حديث إلى حديث، لا للإبطال، والهمزة: للاستفهام عند الجمهور، وبمعنى «بل» ، فقط، عند غيرهم، و (عَجَباً) : خبر كان، و (مِنْ آياتِنا) : حال منه، و (إِذْ أَوَى) : ظرف لعجبًا، لا لحَسِبَْتَ، أو مفعول اذكر، أي: اذكر هذا الوقت العجيب، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف، و (لَنا) و (مِنْ أَمْرِنا) : يتعلق ب (هَيِّئْ)، و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : معلق لنعلم عن المفعولين لما فيه من معنى الاستفهام، وهو مبتدأ، و «أَحْصى» : خبره، وهو فعل ماضٍ، و (أَمَداً) : مفعوله.
و (لِما لَبِثُوا) : حال منه، أو مفعول «أَحْصى» ، واللام زائدة، و (لِما) : موصولة، و (أَمَداً) : تمييز، وقيل:(أَحْصى) :
اسم تفضيل، من الإحصاء بحذف الزوائد، و (أَمَداً) : منصوب بفعل دل عليه أحصى، أي: يحصى كقوله:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
«1» لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، إجماعًا، ويجوز أن يكون تمييزًا بعد اسم التفضيل.
يقول الحق جل جلاله: أَمْ حَسِبْتَ أي: ظننت يا محمد، والمراد: حسبان أمته أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ، وهو الغار الواسع في الجبل. واختُلف في موضعه فقيل: بقرب فلسطين، وقيل: بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم، وفيه موتى، ومعهم كلبهم، وعليهم مسجد، وقريب منه بناء يقال له الرَّقِيم، قد بقي موضع جدرانه، وفي تلك الجهة آثار يقال لها: مدينة «دقيوس» ، والله أعلم. وقال ابن جزي: ومما يُبعد ذلك ما رُوي أن معاوية مرَّ عليهم، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل، هيبةً، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط، وأيضًأ: فإن الموتى في لَوْشة يراهم الناس، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله في أهل الكهف. هـ.
(1) هذا عجز: صدره:
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم
…
وهو للعباس بن مرداس
…
وقوله: القوانسا: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الرأس.
انظر: اللسان (قنس 5/ 3751) ، والمغني لابن هشام (2/ 709) .
والمشهور: أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم، وكان جُعِل ذلك الكتاب في خزانة الملك، وهو لوح من رصاص أو حجر، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومُهم فقْدَهم. وقيل: اسم كلبهم.
أي: أظننت أنهم كانُوا في قصتهم مِنْ بين آياتِنا عَجَباً أي: كانوا عجبًا دون باقي آياتنا، ليس الأمر كذلك. والمعنى: أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادة، ليست بعجيبة، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر مِن خلق الله تعالى على الأرض، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة، بل هي عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري: أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم، بما أضاف إلى نفسه بقوله:(مِنْ آياتِنا) ، وقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ. هـ.
ثم ذكر أول قصتهم، فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ: جمع فتى، وهو الشاب الكامل، أي: اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف، هاربين بدينهم، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم، ورأسهم «دقيانوس» ، على ما يأتي في قصتهم.
فَقالُوا حين دخلوا الغار: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات، رَحْمَةً خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء، وَهَيِّئْ: أصلح لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم، رَشَداً: هداية نصير بها راشدين مهتدين، أو: اجعل أمرنا كله رشدًا وصوابًا، كقولك: لقيت منك أسدًا، فتكون من باب التجريد، أو: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي: أَنَمْنَاهُمْ، شبَّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحَجْب عن الشعور عند النوم لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر، إذ هي الطريقة للتيقظ غالبًا. والفاء في (فَضَرَبْنا) : مثلها في قوله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ «1» ، بعد قوله: إِذْ نادى، فإنَّ الضرب المذكور، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال، والبعث، وغير ذلك، إيتاءُ رحمةٍ لَدُنِّيَّةٍ خفيةٍ عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعوتهم، أي: فاستجبنا لهم وأَنَمْناهم، فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي: ذوات عدد، أو تُعَدُّ عددًا، أو معدودة، ووصْف السنين بذلك: إمَّا للتكثير، وهو الأنسب بكمال القدرة، أو التقليل، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبًا من سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
(1) من الآية 90 من سورة الأنبياء.