الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ابراهيم
مكية. وهى إحدى وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «1» ، مع قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ فإنه تصريح بالشهادة له. أو: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، على تفسيره بالقرآن، مع قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر
…
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)
الألف: آلاؤه، واللام: لطفه، والراء: رحمته. فكأنه يقول: بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا، ولذلك رتَّب عليه قوله:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
…
قلت: (كتاب) : خبر، أي: هذا كتاب، و (بإذن) : متعلق بتُخرج، أو حال من فاعله، أو مفعوله. و (إلى صراط) : بدل من (النور) . (الله الذي) من رفعه فعلى الابتداء، والموصول خبره، أو خبر عن محذوف، ومن خفضه فبدل من (العزيز)، و (الذين يستحبون) : صفة للكافرين أو نصب، أو رفع على الذم.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المحبوب، هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى العمل به، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيقه وهدايته وتسهيله، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفي ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سائله، بل تحمد عاقبته.
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما في السمواتِ وما في الأرض مُلكاً وعبيداً. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به،
(1) من الآية 43 سورة الرعد.
فقال: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتابه، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم، مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، والويل: كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك، أي: هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل: وادٍ في جهنم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يختارونها عَلَى الْآخِرَةِ، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه، وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويقهم عن الإيمان، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: ويبغون لها زيغاً، ونُكُوباً عن الحق، ليتوصلوا للقدح فيها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: في تلف بعيد عن الحق، بحيث ضلوا عن الحق، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة: للضال، ووُصف به فعله للمبالغة.
الإشارة: قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة، أولها: ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعِفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون. وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار ابداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق بعيد. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال، بعث الله الرسل، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى الله بلسان قومهم، كما قال تعالى: