الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن اعتزل كل ما سوى الله، وأفرد وجهته إلى مولاه، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه، بل يطلعه الله على أسرار ذاته، وأنوار صفاته، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن الله، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قلت: (وَكُلًّا) : مفعول أول لجعلنا، و (عَلِيًّا) : حال من اللسان.
يقول الحق جل جلاله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ أي: اعتزل إبراهيمُ قومَه وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن خرج من «كوثى» بأرض العراق، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَيَعْقُوبَ حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وُهبت لزوجه سارة، ثم وهبتها له، فوُلد له منها إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه، فكانت النعمة بهما أعظم.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، فإنهما شجرة الأنبياء، لهما أولاد وأحفاد، لكل واحدٍ منهم شأن خطير وعدد كثير.
وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي: وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً.
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا هي النبوة، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل: الرحمة: المال والأولاد، وما بسط لهم من سعة الرزق، وقيل: إنزال الكتاب، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا: رفيعًا في أهل الأديان، فكل أهل دين يتلونهم، ويثنُون عليهم، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» .
والمراد باللسان: ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتبدل الدول، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.
(1) الآية 84 من سورة الشعراء. [.....]
الإشارة: كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية، وفي الحكم:«ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة» . قال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: (ثمار العزلة: الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة: كشف الغِطاء، وتنزل الرحمة، وتحقق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة، قال الله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ
…
الآية) . وقال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا، فهلك كما هلكوا.
وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله: كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق، فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي، قال: لا تسمع كلامهم، فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال: لا تعاملهم، فإن معاملتهم خسران ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم، لا بد لي من معاملتهم، قال: لا تسكن إليهم، فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون، قال: يا هذا أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطَّالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات.. هذا لا يكون أبدًا، ثم غاب عني.
وقال القشيري رضي الله عنه: فأرباب المجاهدات، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات- أي: من الدنيا-. قال: وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة. هـ. وقال في «القوت» : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه فى الواحدة، وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر. هـ.
قلت: العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد، فإذا تمكن من الشهود، وأَنس قلبه بالملك الودود، واتصل بحلاوة المعاني، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق، ونوارًا يرعى فيهم، فيجتني حلاوة الشهود، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب:
الخَلْقُ نَوَّارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فيهمُ
…
هُمُ الحجابُ الأكبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ.
وفي مقطعات الششتري:
عين الزحام
…
هم الوصول لحيِّنا.
وبالله التوفيق.