الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرجوع إلى الله في الضراء أصعب، والسير به أقوى لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية، ولذلك قدَّمه الحق تعالى. وفي الحديث:«إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» ، وفي الخبر عن الله تعالى:«الفقر سجني، والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي» . وبه يحصل على عمل القلوب الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل، وغير ذلك من المقامات، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار.
وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، بل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ
…
قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات: هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات، منحنا الله من ذلك، الحظ الأوفر. آمين.
ومن جملة الشر الذي ابتلى الله به عباده: إذاية الخلق، كما قال لنبيه- عليه الصلاة والسلام:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 41]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
قلت: (أَهذَا الَّذِي) : مقول لحال محذوفة، أي: قائلين: أهذا الذي، وحذف الحال، إذا كان قولاً، مطردٌ. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) : حال، و (بَلْ تَأْتِيهِمْ) : عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي: لا يكفونها، بل تأتيهم.
يقول الحق جل جلاله: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً مهزوءًا بك على معنى قصر معاملتهم معه- عليه الصلاة والسلام على اتخاذهم إياه هزوًا، كأنه قيل: ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل- لعنه الله-، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف «1» . قال القشيري: (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص، وما رقَّاه الله من المنزلة،
(1) عزاه السيوطي فى الدر (4/ 573) لابن أبى حاتم عن السدى.
لظلوا له خاضعين، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا فيه جسمه وصورته) . فاستهزءوا بما لم يُحيطُوا بعلمه، حَال كونهم يقولون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ أي: يعيب آلِهَتَكُمْ، فالذكر يكون بخير وبضده، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوًا فهو ذم. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي: بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، هُمْ كافِرُونَ لا يصدقون به أصلاً، فهم أحق بالهزء والسخرية منك لأنك مُحق وهم مُبطلون. والمعنى أنهم يعيبون- عليه الصلاة والسلام أن يذكر آلهتهم، التي لا تضر ولا تنفع، بالسوء، والحال:
أنهم بذكر الرحمن، المنعم عليهم بأنواع النعم، التي هي من مقتضيات رحمانيته، كافرون، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال، أو: بما أنزل من القرآن لأنه ذكر الرحمن، هُمْ كافِرُونَ جاحدون، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ «هُمْ» للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، العَجَل والعَجَلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان: الجنس، جُعل لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه خُلق من العَجَلة، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء:
خُلق منه، تقول لمن يكثر منه الكرم: خُلق من الكرم. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث، حين استعجل العذاب بقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هّذاَ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا.. الآية «1» ، كأنه قال: ليس ببدع منه أن يستعجل، فإنه مجبول على ذلك، وطبعُه، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. ورُوي: أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام، فكانت العجلة من سجيته، وسرت في أولاده. وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه، ليتكمل بعد النقص، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة. قال القشيري: العَجَلةُ مذمومةٌ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ. والفرق بينهما: أن المسارعة: البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلة: استقباله قبل وقته، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق. هـ.
وقال الورتجبي: خلقهم من العَجَلة، وزجرَهم عن التعجيل إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. هـ. قلت: مازالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين، وبها عُرفوا، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين، وبها وصفوا.
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.
وقيل: العَجَل الطين، بلغة حِمْير، ولا مناسبة له هنا.
قال تعالى، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين: سَأُرِيكُمْ آياتِي: نَقَماتي، كعذاب النار وغيره، فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ: إتيان العذاب، أو القيامة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم بأنه يأتينا، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء والإنكار، لا طلبًا لتعيين وقته، والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة. قال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه، وفظاعة ما فيه من العذاب، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى: حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: مفعول «يعلم» ، وهو عبارة عن الوقت الموعود، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: حين يرون ويعلمون حقيقة الحال، وهو معاينة العذاب. وجواب «لو» : محذوف، أي: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أي: بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، فَتَبْهَتُهُمْ: فتُحيِّرهم أو تغلبهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها فلا يقدرون على دفعها عنهم، أي: النار أو الساعة، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ: يُمهلون ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ: نزل أو أحاط أو حلّ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: من أولئك الرّسل- عليهم السلام جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وهو العذاب الدائم. نسأل الله العافية.
الإشارة: كل من خرق عوائد نفسه، وخرج عن عوائد الناس، أو أمر بالخروج عن العوائد، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا، سنة الله التي قد خلت من قبل، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية من علم لدني، أو هداية خلق على يده، استعجلوه بإظهار الكرامة، كما هو شأن الإنسان، خُلق من عَجَل، فيقول:
سأوريكم آياتي، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص، حين ترهقهم الحسرة، وتُحيط بهم الندامة، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاءوا، وجوههم كالشموس الضاحية، لبادروا إلى الانقياد لهم، وتقبيل التراب تحت أقدامهم، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون.