الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوة والمُلك والمال. قيل: هو يعقوب بن إسحاق. وقال الكلبي ومقاتل: هو يعقوب ابن ماثان، أخو عمران بن ماثان، أبي مريم، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم، وماثان من نسل سليمان عليه السلام، فكان آل يعقوب أخوال يحيى. قال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ، فأراد أن يرث ولده حبُورته، ويرث من بني ماثان ملكهم. هـ.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: مرضيًا، فعيل بمعنى مفعول، أي: ترضى عنه فيكون مرضيًا لك، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل، أي: راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الوارث الروحاني- وهو وارث العلم والحال- جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل: السكوت والاكتفاء بالله أولى، ففي الحديث:«يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه» «1» . وقوله تعالى: نِداءً خَفِيًّا. الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة، فهم بحسب ما يبرز في الوقت.
وقوله تعالى: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. فيه قياس الباقي على الماضي، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله وأعظم منه من حسَّن الظن بالله لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم، والجود والرأفة والرحمة، فإن الأول ملاحظ للتجربة، والثاني ناظر لعين المِنَّة.
قال في الحكم: «إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا؟
وهل أسدى إليك إلا مننا؟» .
ثم ذكر إجابته لزكريا عليه السلام، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(1) أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره (2/ 3) ، وابن جرير (16/ 48) عن قتادة.
قلت: «عِتِيًّا» : مصدر، من عتا يعتو، وأصله: عتوو، فاستثقل توالي الضمتين والواوين، فكسرت التاء، فقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم قُلبت الثانية أيضّا لاجتماع الواو والياء، وسبق إحداهما بالسكون. (قالَ كَذلِكَ) : خبر، أي: الأمر كذلك، فيوقف عليه، ثم يقول:(قالَ رَبُّكَ) ، أو مصدر لقال الثانية، أي: مثل ذاك القول قال ربك. و (سَوِيًّا) : حال من فاعل (تُكَلِّمَ) .
يقول الحق جل جلاله: يا زَكَرِيَّا، كلمهُ بواسطة المَلك: إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونجيب دعوتك بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لأنه حيى به عُقْمُ أمه. أجاب نداءه في الجملة، لا من كل وجه، بل على حسب المشيئة، فإنه طلب ولدًا يرثُه، فأجيب في الولد دون الإرث فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه- عليهما السلام وقيل: بقي بعده برهة، فلا إشكال حينئذ. وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له، وفي تخصيصه به- كما قال تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي: شريكًا في الاسم، حيث لم يتسم به أحد قبله- مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة»
. وقيل: (سَمِيًّا) : شبيهًا في الفضل والكمال، كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «2» فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه، لأنه لم يهم بمعصية قط، وأنه ولد لشيخ فانٍ، وعجوز عاقر، وأنه كان حصورًا، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: من أين وكيف يحدث لي غلام، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً: عقيمة، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: يبسًا في الأعضاء والمفاصل، ونحولاً في البدن، لِكِبَرِهِ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران استعظامًا لقدرة الله تعالى، وتعجيبًا منها، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل: كان دهشًا من ثمرة الفرح، وقيل: كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. وقيل: بل كان ذلك بطريق الاستبعاد، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة، وكان قد نسي دعاءه، وهو بعيد.
قالَ كَذلِكَ أي: الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة، لكن هو على قدرتنا هين، ولذلك قال:
قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك، ثم فسَره بقوله: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أو «مثل» مقحمة، أي: ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق، أو كذلك قضى ربك.
(1) وجه الفضيلة: أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى أبويه، فسمّاه باسم لم يسبق إليه
…
راجع: زاد المسير (5/ 210) .
(2)
من الآية 65 من سورة مريم.
ثم قال: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي: وقد أوجدت أصلك «آدم» من العدم، ثم نشأتَ أنت من صلبه، ولم تك شيئًا، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده، ولذلك قال في آية أخرى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ «1» الآية. انظر تفسير أبي السعود.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة تدلنى على تحقق المسئول، وبلوغ المأمول، وهو حمل المرأة بذلك الولد، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى- عليهما السلام بستة أشهر، أو بثلاث سنين) ، ولا ريب في أنَّ دعاء زكريا عليه السلام كان في صغر مريم، لقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ «2» ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم- عليها السلام.
قالَ له تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر، ثَلاثَ لَيالٍ بأيامهن، للتصريح بها في آل عمران «3» ، حال كونك سَوِيًّا أي: سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح، مابك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ: من المصلّى، وكان مغلقًا عليه، فالمحراب مكان التعبد، أو من الغرفة، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب، ليدخلوا ويُصلوا، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه، وقالوا له: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي: أوْمَأ إليهم، وقيل: كتب في الأرض: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا: صلاة الفجر وصلاة العصر، ولعلها كانت صلاتهم. أو: نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ «4» وفي الحكم:
«ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار» . فإذا اضطررت إلى مولاك، فلا محالة يجيب دعاك، لكن فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره، واستفرغ أوقاتك، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
(1) الآية 11 من سورة الأعراف. [.....]
(2)
من الآية 38 من سورة آل عمران.
(3)
في قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً الآية 41.
(4)
من الآية 62 من سورة النمل.