الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ....) الخ. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ
…
) الآية، لمّا كانا- عليهما السلام مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، وذكر في القوت: أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا، ثم ركب البساط، وحملته الريح، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً، فأنزلته الريح، فقال: لم أنزلتني ولم آمرك؟! فقالت: نطيعك إذا أطعت الله، ونعصيك إذا عصيته. فاستغفر وحملته. هـ بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أيوب عليه السلام، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر خبر أَيُّوبَ عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ: دعاه: أَنِّي أي: بأني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وهو بالضم: ما يصيب النفس من مرض وهزال، وبالفتح: الضرر في كل شيء، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، تلطف في السؤال حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب من كمال أدبه، فكأنه قال: أنت أهل أن تَرحم، وأيوب أهل أن يُرحَم، فارحمه، واكشف عنه ضره الذي مسه. عن أنس: أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة، ولم يشتك، وكيف يشكو، والله تعالى يقول: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ «1» .
وقيل: إنما اشتكى إليه تلذذًا بالنجوى، لا تضررًا بالشكوى، والشكاية إليه غاية في القُرب، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد، وسيأتي في الإشارة تكميله، إن شاء الله. رُوي أن أيوب عليه السلام، كان من الروم، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق. وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة، وبسط عليه الدنيا فكان له ثلاثة آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد، وكان له سبعة بنين، وسبع بنات. قاله النسفي.
زاد الثعلبي: وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف، ويبلغ
(1) من الآية 44 من سورة ص.
ابن السبيل، شاكرًا لأنعم الله، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به: رجل من اليمن واثنان من بلده، كُهُولا. قال وهب: فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده، فقال: إلهي، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك، فقال له تعالى: انطلق، فقد سلطتك على ماله، فجمع عفاريته وأخبرهم، فقال عفريت من الجن: أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس:
دونك الإبل ورعاتها، فجاءها حتى وثبت في مراعيها، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها. فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها، وجلس على قَعُودٍ منها، فأتاه، وقال: يا أيوب، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها، فقال أيوب: هو ماله، أعارنيه، يفعل فيه ما يشاء، فرجع إبليس خاسئًا، حين حمد أيوبُ ربه، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه، قال له إبليس: ائت الغنم ورعاءَها، فأتى، فصاح، فصارت أمواتًا ورعاتها، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان «1» الرعاة، فقال له كمقالته في الإبل، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها، فرجع خاسئًا، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه، قال إبليس: فأتِ الفدادين والحرث، فجاءها، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث، فقال له مثل قوله الأول، وردَّ عليه مثل رده، حتى أتى على جميع ماله، وأيوب يحمد الله تعالى.
فقال إبليس: إلهي إن أيوب يقول: إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده، فهل تسلطني على ولده، فإنها الفتنة؟ قال الله تعالى: قَدْ سلطتك على ولده، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة، وهو جريح، فقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عُذبوا؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم، وسال دماغهم من أنوفهم، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فصعد إبليس مسرورًا، ثم ذهب أيوب، فلما أبصر ذلك استغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئًا، فقال: إلهي إنما هوّن أيوب خطر المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك، قال الله تعالى: قَدْ سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا، فجاء من قِبل الأرض، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فَوهِلَ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم، ووقعت به حكة لا يملكها، فحك بأظفاره، ثم بالمسُوح الخشنة، ثم بالحجارة، حتى نغل لحمه، وتغير، ونش، وتدود، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشًا، ورفضه الخلق كلهم، إلا «رحمةً» امرأته بنت إفرائيم بن يوسف عليه السلام، فقامت عليه بما يصلحه.
(1) القهرمان: هو المسيطر الحفيظ على من تحت يديه، وهو فارسى معرب.. انظر اللسان (قهرم) .
روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ «1» » . الحديث، وقال كعب: سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وما قاله- عليه الصلاة والسلام إن ثبت، هو الصحيح. وقال الحسن: مكث أيوب مطرودًا على كناسة، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا، يختلف فيه الدود. ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها.
رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا: لو دعوتَ الله عز وجل؟ فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ قالت: ثمانين سنة. فقال:
إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. هـ. ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره، فصرخ إبليس صرخة، وقال: أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطنى عليه، فقالت له العفاريت: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، ما أتيته إلا من قبل امرأته، فتمثل لها بصورة رجل طيب، وفي رواية الحسن: في هيئة ليست كهيئة بني آدم، في أحسن صورة، فقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذاك، يحك قروحه، ويتردد الدود في جسده، فقال لها: أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما.
وقال وهب: قال لها: لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء، فأخبرت أيوب، فقال: أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم، إن عافاه الله، ليضربنها مائة ضربة. ثم حلف لا يأكل لها طعامًا، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد، وقال عند ذلك:(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من طمع إبليس في سجودي له، (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فقيل له:(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فركض، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فلم يبق من دائه شيء، وسقطت الدود من جسده، وعاد شبابه وجماله. ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبقَ في جوفه داء إلا خرج، وكانت امرأته «رحمة» حين حلف، تركته مدة، ثم ندمت وعادت، فوجدته في أحسن هيئة، فلم تعرفه، فقالت له: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا؟ قال: أنا هو، شفاني الله، ثم عرفته بضحكه، فتعانقا، ثم أمره اللهُ تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه. هـ. «2» .
(1) أخرجه فى حديث طويل ابن حبان (بترتيب ابن بلبان 7/ 2898) ، وابن أبى حاتم فى التفسير (8/ 2459) ، والبزار (كشف الأستار/ 2357)، وقال الهيثمي (8/ 208) : رواه أبو يعلى، والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح.
(2)
جل ما ذكره الشيخ المفسر من روايات فى قصة أيوب أخرجه الطبري فى تفسيره (17/ 65) وما بعدها، وذكره البغوي وغيره فى تفاسيرهم. وهذا مما يجب تنزيه الأنبياء عنه. وقد ردّ العلماء المحققون هذه الأخبار، وقال الدكتور أبو شهبة فى كتابه (الإسرائيليات والموضوعات) : والذي يجب أن نعتقده أن أيوب عليه السلام ابتلى، ولكن بلاءه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب. فأيوب عليه السلام أكرم على الله من أن يلقى على مزبلة، وأن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته ويقززهم منه.. إلخ كلامه. انظر:
كتاب الإسرائيليات والموضوعات. فهو كتاب نفيس.
قلت: تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة: جائز وواقع. وأما الأمراض المنفرة، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع، فجائز عند بعضهم، وهو الصواب، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء- عليهم السلام، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم، وبَعْد التبليغ فلا يضر، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره، وكذلك يعقوب، وكان بعد تبليغ الرسالة، فلم يضر.
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ إنعامًا عليه، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل، والمال، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم، ورزقه مثلهم، ورد عليه ماله، بأن أخلف له مثله، وذلك قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقيل: كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له. وقال عكرمة: آتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، والأول هو ظاهر الآية، ردهم الله تعالى بأعيانهم إظهارًا لكمال قدرته تعالى.
ثم قال رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا: مفعول من أجله، أي: آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي:
وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، ويُثابوا كما أُثيب، أو لرحمتنا العابدين، الذين من جملتهم أيوب، وذكرنا إياهم بالإحسان، وعدم نسياننا لهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب، في النفس، أو في الأهل، كله رحمة، عظيمة، ومنّة جسمية، ويقاس عليه: مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية، ويُسمى عند الصوفية:
التعرفات الجلالية لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها ليعرفوه عيانًا، ولذلك تجدهم يفرحون بها، وينبسطون عند ورودها لما يتنسمون فيها، ويجدون بعدها، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية كالصبر والزهد والرضا والتسليم، وما ينشأ عنها، عند ترقيق البشرية، من تشحيذ الفكرة والنظرة، وغير ذلك من أعمال القلوب.
وفي الحِكَم: «إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك فإنه ما فتحها لك إلَاّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟» . قال الشيخ ابن عباد رضى الله عنه: معرفة الله تعالى هي غاية المطالب، ونهاية الأماني والمآرب، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرّف له منها، فذلك من النعم الجزيلة عليه، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر، وما يترتب عليها من جزيل الأجر، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين،
المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب، وأين أحدهما من الآخر؟.
ومثاله: ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا، وتمنعه من كثير من أعمال البر، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا، طيَّبَ العيش ناعمَ البال، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة، ولا تقطع عنه لذة، ولا يفوته شهوة، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام، إلا بما يُضادُ مراده، ويشوّش عليه معتادَه، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له، ومرادَه منه، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها.
وقد رُوِيَ أنَّ الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: «إني إذا أنزلت بعبدي بلائي، فدعاني، فماطلتُه بالإجابة، فشكاني، قلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك» ؟ وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضى الله عنه قال: كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار، وقد عمّ جسده الجذامُ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة، لقيه بعضُ الناس، فقال له: يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي: اسكت، لا تقل ذلك لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء، فسألناه إِيّاه «2» ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد، وقطبَ العباد، وإمام الأولياء والأوتاد، في غار بأرض طرطوس وجبالها، ولحمُه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة، حتى يشدّ نفسه بالحديد، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر. هـ.
(1) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (الجنائز، بال ما ينبغى لكل مسلم أن يستشعره من الصبر..) ، والحاكم فى المستدرك (الجنائز 1/ 349) عن أبى هريرة، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
(2)
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوى. وقال: «اسألوا الله العافية» .
وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام: مَسَّنِيَ الضُّرُّ هل شكى ضرر جسمه، أو ضرر قلبه من جهة دينه؟
قال بعضهم: قيل: إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع، فقال:(مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، وقيل: إنه أكل الدود جميع جسده، حتى بقي عظامًا، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه لأنه موضع المعرفة والتوحيد، والنبوة والولاية، وأسرار الله تعالى، وخاف انقطاع الذكر، فقال:(مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، وقيل: خاف تبدد همه وتفرق قلبه، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم، فتارة يقول: لعلي ببلائي مُعاقب، وتارة يقول: بضري مُستدرج، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه، قال:(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) . هـ.
قلت: هذا المقام لا يليق بالأنبياء، وإنما يجوز على غيرهم إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم: قال: مسني الضر من شماتة الأعداء، واقتصر عليه ابنُ جُزي، وفيه شيء إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم، ولا مدحهم ولا ذمهم، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام؟! وقال القشيري: كان ذلك منه إظهارًا للعجز، لا اعتراضًا، فلا يُنافي الصبر، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة، ليكون أسوة. ويقال: إن جبريل أمره بذلك، وقال له: إن الله يغضبُ إن لم يُسأل، وسيان عنده البلاء والعافية، فسَله العافية. ويقال: إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة، مأخوذًا عنه، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَر عليه، فردَّه إليه، فقال: مَسني الضُّرُّ، وقيل: أَدْخَل على أيوب تلك الحالة، فاستخرج منه تلك المقالة ليظهر عليه سمة العبودية «1» . هـ.
وقال الورتجبي: سُئل الجنيد عن قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، فقال عرّفه فاقة السؤال، ليمنّ عليه بكرم النوال، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب «مسنى الضر» ، فبكى- عليه الصلاة والسلام وقال: والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي، فلم يستطع النهوض، فقال:(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلخ. ثم قال عليه الصلاة والسلام: أكل الدود عامة جسد حتى بقي عظامًا نخرة «2» ، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره، وما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج، بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان، أذكرك بهما، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. هـ.
وفي قوله تعالى: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا. والله تعالى أعلم.
(1) باختصار.
(2)
لم أقف عليه.