الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاملة يوم القيامة حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون. ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت: الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف: علماء السوء، وفقراء السوء- وهم أهل الزوايا والنسبة-، وقراء السوء لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم قال تعالى:(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) .. الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم:(بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قلت: (خَيْراً) : منصوب بفعل محذوف، أي: أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله:(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فهو مرفوع على الخبر لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال لإنكارهم له، وقالوا: هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و (لِلَّذِينَ) : خبر، و (حَسَنَةٌ) :
مبتدأ، والجملة: بدل من (خَيْراً) ، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) :
يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره:
(يَدْخُلُونَها) ، أو محذوف، أي: لهم جنات عدن. و (طَيِّبِينَ) : حال من مفعول «توفاهم» .
يقول الحق جل جلاله: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، وهم المؤمنون: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً، أي: أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا: أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوِي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين من الكفار، قالوا له: أساطير الأولين، وإذا سال المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا بالإِيمان والطاعة، حَسَنَةٌ أي: حالة حسنة من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي:
ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثاب عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» «1» . وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها على الأبد، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله:(فِيها) تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ: طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل: فرحين لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية.
قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: (طَيِّبِينَ) : عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة:(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها «2» . هـ.
وقال الترمذي الحكيم: (طَيِّبِينَ) أي: مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم: ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له: ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. هـ. وهذا معنى قوله: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث: «لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنْتَ؟ قَالَ: ولا أَنَا، إِلَاّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه» ؟ فالجواب: أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث: نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة فى
(1) أخرجه مسلم بنحوه فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب: جزاء المؤمن بحسناته فى الدنيا والآخرة) . من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
من الآية 73 من سورة الزمر.
نسبة العمل للعبد فضلاً ونعمة «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك» . والحديث سلك مسلك الحقيقة لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًّا كان أو جماليًّا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون: إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي، فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر:
إن شكوت الهوى فما أنت منا
…
احمل الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو
…
أين دَعْوَاك في الهَوَى، قَل لِيَ: أيْنَا؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا
…
لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى.
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم: خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح «1» .
وفي الخبر: «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» . وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» «2» ، وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلَاّ كفّر له من سيئاته» «3» ، وقال أيضاً:
صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . «4» . ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول: لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل: ماذا أنزل ربكم؟ قال: خيرا.
(1) ليس هذا مفيدا لتقليل شأن الصلاة والصوم.. إلخ، وإنما يريدك الشيخ أن تجعل عمل القلب مع عمل الجارحة.
(2)
رواه مسلم فى (الزهد، باب المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضى الله عنه.
(3)
رواه البخاري فى (المرض، باب ما جاء فى كفارة المرض) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري فى (المرض، باب قول المريض: إنى وجع) ، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض..) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه.