الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما خاصة الخاصة وهم العارفون المتمكنون، فهم مع مولاهم، يأخذون من يده ما يعطيهم لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار، فلم يبق فيها متسع للأغيار، قد تهذبت نفوسهم، واطمأنت بالله قلوبهم، فلا تلتفت إلى غير مولاها. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.. إلخ، الاختلاف، إن كان فى التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد، فهو مذموم، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة، وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع، كاختلاف الشرائع والمذاهب، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام:«اختلاف أمتي رحمة» ، وقال بعض الصوفية: ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا، فإن توافقوا فلا خير فيهم. هـ. والمراد بالتنافر- في حقهم- التناصح، وإنكار بعضهم على بعض إذا رأى من أحد عيباً، فإن سكتوا عن بعضهم، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً، فلا خير فيهم، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة.
وقوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، أما أهل الحق فهم فرحون لسلوكهم على المنهاج المستقيم، المُفضي إلى رضوان الله ورحمته، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد الله فيهم، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه، فتبطل حكمته وقهريته، وكل من أقامه الحق- تعالى- في حرفة أو خُطة، زينها الله- تعالى- في قلبه حتى يقوم بها، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا في الأسباب، ولتجردوا كلهم، فتبطل الحكمة الإلهية. وكان إبراهيم بن أدهم رضى الله عنه يقول:(لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) : فسبحان من قرَّب قوماً وأبعد قوما، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) . والله تعالى أعلم وأحكم.
ثم ذكر أهل القرب، إثر بيان أهل البعد، فقال:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
قال في الحاشية: لّمَّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره. هـ.
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي: من عذابه خائفون حذرون، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمُنَزَّلة، (يؤمنون) بتصديق مدلولها، وبكتب الله كلها، لا يُفرقون بين كتبه، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم- وهم أهل الكتاب وغيرهم، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ شركاً جلياً ولا خفياً، بخلاف مشركي العرب والعجم.
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي: يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات. وقرئ: (يأَتُونَ مَا أَتَواْ) بالقصر، أي: يفعلون من الطاعات، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ: خائفة ألَاّ تُقبل منهم لتقصيرهم بأن لا يقع على الوجه اللائق، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه لأنهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ فيعاتبهم، أو من مرجعهم إليه، وهو يعلم ما يحيق عليهم، والموصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة، لا عن طوائف، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة، كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون
…
إلخ.
وإنما كرر الموصول إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وخبر «إنّ» : أُولئِكَ يُسارِعُونَ، أشار إليهم بالجمع باعتبار اتصافهم بتلك النعوت، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع.
ومعنى البُعد للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل، أي: أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون فِي الْخَيْراتِ أي: يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرون إليها. أو يسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات كما في قوله، تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ «1» ، وقوله: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم، غير أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل: أولئك نسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال. وإيثار كلمة «في» ، عن كلمة «إلى» إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها، كما في قوله تعالى: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية «3» .
(1) من الآية 148 من سورة آل عمران.
(2)
الآية 122 من سورة النحل.
(3)
الآية 133 من سورة آل عمران.
وَهُمْ لَها أي: لأجل نيل تلك الخيرات، سابِقُونَ الناس إلى الطاعات، أو: وهم إياها سابقون، واللام زائدة لتقوية العامل، كقوله:(هم لها عاملون) أي: ينالونها قبل الآخرة، فتُعجل لهم في الدنيا، وعن ابن عباس:
(هم لها سابقون) أي: سبقت لهم من الله السعادة، فلذلك سارعوا في الخيرات. هـ. فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعوا للغفلة والإعجاب، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون.
قال تعالى: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: طاقتها، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ببيان سهولته، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، أي: عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين، فلا عليهم، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم.
وَلَدَيْنا كِتابٌ أي: صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب، حسبما يُعرب عنه قوله: يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، كقوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أي: عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحدٍ على ما هو عليه، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً، وقوله:(بالحق) : يتعلق بينطق، أي: يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه، أو يظهره للسامع، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها، ويرتب عليها أجزيتها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرٌ، وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة، وقوله: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال، أي: لا يظلمون في الجزاء بنقص الثواب أو بزيادة عذاب، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها، ونطقت بها صحائف أعمالهم، أو: لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه، أو: لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين، أولها: الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد، والثاني: الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد، والثالث: التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي، والرابع: السخاء والكرم، مع رؤية التقصير فيما يعطي.
فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات، ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد، مع بذل المجهود في فعل الخيرات.
قال في الحاشية: والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور، وأول الشرور: حب الدنيا لأنها مزرعة الشيطان، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه، لما جرى عليه في السابقة من الحكم، ولا كذلك من وصفه بالإشفاق من المؤمنين إجلالاً لربهم، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً، فلا يأمنون مكره بحال، ولا يركنون إلى أعمال، بل عمدتهم
(1) من الآية 29 من سورة الجاثية.