الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: إذا تميز المتحابون في الله، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته، وعُرفوا بأنوارهم وأسرارهم، وانحازوا إلى ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظل إلا ظله، ورآهم البطالون المنكرون عليهم، وهم في حسرة الحساب، يقولون بلسان الحال أو المقال:(رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء، وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة، وردنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون، فيقال لهم: اخسئوا فيها فقد فات الإبان، إنه كان فريق من عبادي، وهم المنتسبون من أهل التجريد، المتزيون بزي الصوفية أهل التفريد، يقولون: ربنا آمنا بطريق الحصوصية ودخلنا فيها، فاغفر لنا، أي: غط مساوئنا، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك، وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخرياً، وانشغلتم بالوقوع فيهم، حتى أنسوكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم، بما صبروا، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتي، والقرب من أحبابي، المتنزهون في كمال جمالي، في درجات المقربين من النبيين والصديقين.
قال القشيري: الحق ينتقم من أعدائه بما يُطَيَّبُ به قلوبَ أوليائه، وتلك خَصْمَةُ الحق، فيقول لهم: كان فريقٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وإطرائي، فاتخذتموهم سخرياً، فأنا اليوم أُجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم. هـ.
قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ.... إلخ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد، فتعود كيوم واحد، أو بعض يوم، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسي أيام التعب، وغاب عنها، فتصير كأضعاث أحلام، وإن أفضى إلى التعب، نسي أيام الراحة، كأنها طيف منام. قال في الحاشية: الأشياء، وإن كانت كثيرة، فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض، إن كانوا في الراحة فقد تقل، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى في جنب رؤية ذلك اليوم لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية. هـ.
ثم تمم توبيخهم يوم القيامة بقوله:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قلت: (أَفَحَسِبْتُمْ) : المعطوف محذوف، أي: ألم تعلموا شيئاً فحسبتم، و (عَبَثاً) : حال، أو مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي: عابثين، أو للعبث من غير حكمة في خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ للحساب والجزاء، بل خلقناكم للتكليف، ثم للرجوع إلينا، فنُثيب المحسن، ونعاقب المسيء. فَتَعالَى اللَّهُ أن يخلق شيئاً عبثاً، وهو استعظام له تعالى ولشئونه التي يصرّف عليها عباده من البدء والإعادة، والإثابة والعقاب، بموجب الحكمة، أي: ارتفع بذاته، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله، وعن خلو أفعاله عن الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة.
الْمَلِكُ الْحَقُّ الذي يحق له الملك على الإطلاق، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماته، عذاباً وإثابة، وكل ما سواه مملوك له، مقهور تحت ملكوته، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فإنَّ كل ما عداه عبيده، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، فكيف بما تحته من الموجودات، كائناً ما كان، ووصفه بالكرم: إمّا لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم، والخير والبركة، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، يعبده فرداً أو اشتراكاً، من صفته لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ على صحة عبادته.
وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه؟ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، فهو مُجازٍ له على قدر ما يستحقه، إِنَّهُ أي: الأمر والشأن لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا فوز لهم ولا نجاة.
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين، وختمت بنفي فلاح الكافرين تحريضاً على الإيمان، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته، من التمسك بما جاء به التنزيل، وبما جاء به النبي الجليل، ليقع الفوز بالفلاح الجميل.
ثم علَّمنا سؤال المغفرة والرحمة لأن شؤم المعاصي يؤدي إلى سوء الختام، فقال: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية، حيث أمر به من قد غُفِر لَه ما تقدَم من ذنبه وما تأخر، فكيف بمن عداه؟ نسأل الله- تعالى- المغفرة الشاملة، والرحمة الكاملة، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين.. آمين.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرَّ بمصابٍ مبتلى، فقرأ في أذنه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما
…
) إلخ السورة، فبرئ من حينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال:«والذي نفسي بيده لو أن رجلاً مؤمناً قرأها على جبل لزال» «1» .
الإشارة: ما أظهر الله الكائنات إلا ليُعرف بها، ويُظْهِرَ فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته، وفي الأثر القدسي:«كنت كنزاً لم أُعرف، فأحببتُ أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت لهم، فبي عرفوني» . وفي إيجاد المخلوقات حِكَم بليغه وأسرار عجيبة، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها. فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه،
(1) أخرجه البغوي فى تفسيره (5/ 432) ، وأبو نعيم فى الحلية (1/ 7)، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (ص 298) قال الذهبي فى ميزان الاعتدال (2/ 175) قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:.... وساق الحديث، فقال أبى: هذا موضوع، هذا حديث الكذابين.
وهم أهل الإيمان والطاعة، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم حلمه وعفوه، وهم أهل العصيان، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم عدله وقهره ونقمته، وهم أهل الكفر والطغيان. وقال الحكيم الترمذي رضي الله عنه: إن الله خلق الخلق عبيداً ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإنْ عبدوه فهم اليوم له عبيد، أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُباق، سُقاط، لئام، أعداء في السجون بين أطباق النيران. هـ.
وقال بعضهم: إنما أظهر الله الكون لأجل نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، فهو من نوره. قال ابن عباس رضي الله عنه: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى بن مريم آمن بمحمد، ومُر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار
…
الحديث.
قال القشيري: حسابُه على الله في آجله، وعذابُه من الله له في عاجله، وهو ما أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ أنْ يَعْبُدَ معه غيره، لقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» ، كلامٌ حاصلٌ عن غير دليل عقل، ولا شهادة خبرٍ ونقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقولٌ ليس يساعده برهان. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق- وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً، والحمد لله رب العالمين «2» .
(1) من الآية 3 من سورة الزمر.
(2)
فى خاتمة المجلد الثاني من النسخة الأم ما يلى: كمل السفر الثاني من (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) ، ووافق الفراغ من تبيضه عشية يوم الثلاثاء، سابع عشر صفر، عام ثمانية ومائتين وألف، على يد جامعه «أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي» لطف الله به فى الدارين، بمنّه وكرمه- وبسيدنا ومولانا محمد، نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله. وآخر دعوانا: أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين. يتلوه الثالث من أول سورة النور- إن شاء الله-.
انتهى استخراجه من نسخة من مبيضته بحمد الله- تعالى- على توفيقه لنا وتسديده، عشية يوم الاثنين، آخر يوم من الشهر المذكور، من العام المذكور، على يد كاتبه لشيخه ومؤلفه المذكور «عبد الغفور بن التهامي البناني» ، راجيا رضا مؤلفه، والري من بحره، بمحض الفضل والكرم، والصلاة على النبي الأعظم، والرسول الأفخم، سيدنا محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام. [.....]