الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل، وحال من أنكره، فقال:
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قلت: أُولئِكَ.. الخ: جملة خبر الموصولات، إن رفعت بالابتداء، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب: فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. وجَنَّاتُ: بدل من عُقْبَى الدَّارِ. ومَنْ صَلَحَ: عطف على الواو بفصل المفعول، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ: محكي بحال محذوفة، أي: قائلين سلام عليكم، وحذف الحال- إذا كان قولاً- كثيرٌ مطرد.
يقول الحق جل جلاله: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيستجيب له، وينقاد له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق- جل جلاله على من اشتبه عليه الحق من الباطل، بعد ما ضرب المثل، فإن الأمور المعنوية، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلّا على الخفافشة، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية، حين قالوا: بَلى «1» . وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما أوثقوه على نفوسهم، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص تأكيداً على الوفاء بالعهود.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم، وموالاة المؤمنين، وحُضور مجالس الصالحين، والعلماء العاملين، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ: غضبه وعذابه، أو إبعاده وطرده، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ: مناقشته، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا.
(1) فى قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..) الآية 172 من سورة الأعراف.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلباً لرضاه، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته، لا فخراً ورياء، وطلباً لحظ نفساني. وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال فرضاً ونفلاً، سِرًّا وَعَلانِيَةً إن تحقق الإخلاص، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال، وجهراً لمن يعرف به لئلا يُتهم، أو ليُقتدى به. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالاً لقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ «1» ، أو:
يدفعون الشرك بقول: «لا إله إلا الله» ، أو يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات، كقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «2» . قيل: نزلت في الأنصار. وهي عامة.
ثم ذكر جزاءهم، فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي: الجنة التي فسَّرها بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ، يَدْخُلُونَها مخلدين فيها. والعدْن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة، أي: مداخلها لا ربضُها، فيدخلونها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ فى العمل مبلغهم، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض- لما بينهم من القرابة والوصلة- في دخول الجنة زيادة في أُنسهم، لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات، والدءوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أنَّ مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح والتحف، قائلين:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة، هذا بِما صَبَرْتُمْ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة: أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره، كمن هو أعمى القلب والبصيرة، فلم يرفع بذلك رأساً؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولوا القلوب الصافية التي ذهب خبثها، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ، فأوفوا بعهودهم، وواصلوهم،
(1) من الآية 96 من سورة المؤمنون.
(2)
من الآية 114 من سورة هود.