الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشراق أسرار الذات على السريرة، فيصير الدليل محل العيان، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان، وأول الخشوع: تدبر القلب فيما يقول، وحضوره عند ما يفعل، وغايته: غيبته عن فعله في شهود معبوده، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب، فتكون صلاته شكراً لا قهراً، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم:«أفلا أكون عبداً شكوراً» .
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو، وهو كل ما يشغل عن الله، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله، وإمساك الجوارح عن محارم الله، وحفظ الأنفاس والساعات، التي هي أمانات عند العبد من الله.
قال في القوت: قال بعض العارفين: إن لله- عز وجل إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسرّ عند خروج روحه، يقول له: عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فالقاك بالوفاء والجزاء؟
أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ فهذا داخل في قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)، وفى قوله عز وجل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» ، فعُمْر العبد أمانة عنده، إن حفظه فقد أدى الأمانة، وإن ضيَّعه فقد خان، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «2» . هـ.
ثم ذكر ابتداء خلق الإنسان وأطواره وانتهاء أمره، فقال:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قلت: «خلق» : إن كان بمعنى اخترع وأحدث تعدى إلى واحد، وإن كان بمعنى صَيَّر تعدى إلى مفعولين، ومنه:(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ، وما بعده.
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان، أو آدم، مِنْ سُلالَةٍ «من» :
للابتداء، والسلالة: الخُلاصة لأنها تسل من بين الكدر، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه، فإن (فُعالة) اسم لما
(1) من الآية 40 من سورة البقرة.
(2)
من الآية 58 من سورة الأنفال.
يحصل من الفعل، فتارة يكون مقصوداً منه، كالخُلاصة، وتارة غير مقصود، كالقُلامة والكناسة، والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسَّل، وقيل: إنما سمي التراب الذي خلق منه آدم سلالة، لأنه سُلّ من كل تربة. وقوله:
(مِنْ طِينٍ) ، بيان، متعلقة بمحذوف، صفة للسلالة، أي: خلقناه من سلالة كائنة من طين.
ثُمَّ جَعَلْناهُ أي: الجنس، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام، وجعلنا نسله، على حذف مضاف، إن أُريد بالإنسان آدم، فيكون كقوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «1» أي: جعلنا نسله نُطْفَةً: ماءً قليلاً فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي: في مستقر- وهو الرحم- (مَكِينٍ) : حصين، أو متمكن فيه، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه، مثل طريق سائر، أي: مسير فيه.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي: دماً جامداً، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء، (فخلقنا العلقة مُضغة) أي: قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ أي: غالبها ومعظمها، أو كلها عِظاماً، بأن صلبناها، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً بأن أنبتنا عليها اللحم، فصار لها كاللباس، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم، على مقدار لائق به، وهيئة مناسبة. وقرىء بالإفراد فيهما، اكتفاء بالجنس، وبتوحيد الأول فقط، وبتوحيد الثاني فحسب.
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول، حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وسميعاً وبصيراً، وكان بضد هذه الصفات، ولذلك قال الفقهاء: من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة، ولم يَرُدّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي: فتعالى أمره في قدرته الباهرة، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الإسم الجليل لتربية المهابة، وإدخال الروعة، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لا حظه، أن يسارع إلى التكلم به، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى، وقوله:(أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : بدل من اسم الجلالة، أو نعت، على أنَّ الإضافة محضة ليطابقه في التعريف، أو خبر، أي: هو أحسن الخالقين خلقاً، أي: أحسن المقدرين تقديراً، فحذف التمييز لدلالة الخالقين عليه.
قيل: إنَّ عبد الله بن أبي سَرْح كان يَكْتُبُ الوحى للنبى صلى الله عليه وسلم، فلمّا انتهى- عليه الصلاة والسلام إلى قوله:
خَلْقاً آخَرَ، سَاَرَعَ عبدُ الله إلى النُطقِ بِذَلِكَ، فَنَطَقَ بذلِكَ، قبل إِمْلَائِهِ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب، هكذا
(1) الآيتان 7- 8 من سورة السجدة.