الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى القلب لأنه بيت الرب، أي: هيأنا لإبراهيم مكان قلبه لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا، وقلنا له: لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى، ولا ترى معنا غيرنا، وطهِّر بيتي، الذي هو القلب، من الأغيار والأكدار، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفي بعض الأثر: «يا داود طهر لي بيتًا أسكنه، فقال: يا رب.. وأيُّ بيت يسعك؟ فقال:
لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن» . وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.
ولما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، أمره ربه أن يؤذن فى الناس بالحج، كما قال:
[سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 29]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قلت: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ: حال معطوفة على حال، أي: يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا. و (يأتين) : صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع. وقرأ عبد الله: «يأتون» ، صفة لرجال. و (رجال) : جمع راجل كقائم وقيام.
يقول الحق جل جلاله لإبراهيم عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي: نادِ فيهم ليحجوا. رُوِي: أنه عليه السلام صعد أبا قبيس، فقال: يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى الأرواح، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ إن أذنت رِجالًا أي: مشاة وَركبانا عَلى كُلِّ ضامِرٍ أي: بعير مهزول، أتعبه بُعدُ الشُقة، فهزّله، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث يَأْتِينَ تلك الضوامر بركبانها، مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ بعيد. قال محمد بن
ياسين: قال لي شيخٌ في الطواف: من أين أنت؟ فقلت: من خُراسان. فقال: كم بينك وبين البيت؟ فقلت: مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال: فأنتم جيران البيت. فقلتُ: وأنت من أين سَعيت؟ فقال: من مسيرة خمس سنوات، وخرجت وأنا شاب، فاكتهلت. فقلت: هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة، والمحبة الصادقة، فضحك. وقال:
زُرْ مَن هَوَيْتَ، وإن شطتْ بِكَ الدارُ
…
وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته
…
إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي: يأتوك ليحضروا منافع لهم، دنيوية ودينية، لا تُوجد في غير هذه العبادة كالطواف ونظر الكعبة، وتضعيف أمر الصلاة لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم، أو بالمال، وقد اشتمل الحج عليهما، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب، وهجرة البلاد والأوطان، ومفارقة الأهل والولدان. ولذلك ورد أنه يُكفر الذنوب كلها، كما في الحديث:«مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجعَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» «1» .
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند ذبح الضحايا والهدايا فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، وهي أيام النحر عند مالك، وعند الشافعي: اليوم الأول والثاني والثالث لأن هذه هي أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل لقوله: فِي أَيَّامٍ.
وقال أبو حنيفة: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة ويوم النحر، وهو قول ابن عباس رضى الله عنه، وأما الأيام المعدودات، فهي: الثلاثة بعد يوم النحر- فيوم النحر معلوم لا معدود، ورابعه: معدود لا معلوم، واليومان بعده: معلومان ومعدودان. فيذكروا اسم الله عَلى ما رَزَقَهُمْ أي: على ذبح ما رزقهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وهي الإبل والبقر والغنم، فَكُلُوا مِنْها من لحومها، والأمر: للإباحة، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزي: ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا، ويتصدق بالأكثر. هـ. وقال النسفي: ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران لأنه دم نسك لأنه أشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. هـ. وهو حنفي، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ، وهو الذي أصابه البؤس، أي: ضرر الحاجة، وقيل: المتعفف، وقيل: الذي يظهر عليه أثر الجوع، الْفَقِيرَ: المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
(1) أخرجه البخاري فى (الحج، باب فضل الحج المبرور) ، ومسلم فى (الحج، باب فى فضل الحج والعمرة ويوم عرفة) ، عن أبى هريرة.