الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: ثبوت الخصوصية لا ينافي وصفَ البشرية، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر.
ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل، وبالغيبة عن رؤية الأكوان، بإشراق شمس العرفان، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر، ثم بالبقاء بشهود الأثر حكمةً، مع الغيبة عنه، قدرةً، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب إذ لم يكن للأنبياء، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء، قال تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «1» ، نعم صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ في سورة النحل «2» . وبالله التوفيق.
ثم بيَّن ما أجمل في قوله: (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
قلت: كم: خبرية مفيدة للتكثير، ومحلها نصب، مفعول بقصمنا، و (مِنْ قَرْيَةٍ) : تمييز، و (كانَتْ..) الخ: صفة لقرية.
يقول الحق جل جلاله: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي: كثيرا أهلكنا من أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً بآيات الله تعالى، كافرين بها. وفي لفظ القصم- الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية- من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. وَأَنْشَأْنا أي: أحدثنا بَعْدَها أي: بعد إهلاكها قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم نسبًا ولا دينًا، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي: أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهدَ المحسوس إِذا هُمْ مِنْها أي: من القرية يَرْكُضُونَ:
يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم، بلسان الحال أو المقال من الملَك، أو ممن حضرهم من المؤمنين،
(1) من الآية 38 من سورة الرعد.
(2)
الآية 43 من سورة النحل.
بطريق الاستهزاء والتوبيخ: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من النعم والتلذذ وَإلى مَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تقصدون للسؤال، إذ كانوا أغنياء، أو للتشاور والتدبر في المهمات والنوازل، أو تُسألون الفداء فَتُفتدَوْا من العذاب، أو تُسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.
قيل: نزلت في أهل حاضُورا، قرية باليمن، وكان أهلها العرب، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ، فقتلهم وسباهم، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم استهزاءً بهم، وأتبعهم بُختنصر، فأخذتهم السيوف، ونادى منادٍ من السماء: يا لَثَارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم، فقالوا: يا وَيْلَنا يا هَلَاكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: فما زالوا يُرددون تلك الكلمة، ويدعون بها، ويقولون: يا ويلنا، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي: مثل الحصيد، وهو المحصود من الزرع والنبات، فهو فعيل بمعنى مفعول، فلذلك لم يجمع، كجريح وقتيل. وجعلناهم خامِدِينَ ميتين، من خمدت النار إذا طفئت. وهو، مع «حَصِيداً» ، في حيز المفعول الثاني لجعل، كقولك: جعلته حلوًا حامضًا، والمعنى: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، أو حال من الضمير المنصوب في «جَعَلْناهُمْ» ، ولفظ الآية يقتضي العموم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم من قريةٍ من قرى القلوب قصمنا أهلها، أي: ما فيها من الشكوك والأوهام، كانت ظالمة بتلك الخواطر، فأخرجناهم منها، وأنشأنا بعدها أنوارًا وأسرارًا وعلومًا آخرين. فلما أحسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها، التي تأتي من حضرة القهار، إذا هم منها يركضون لأن الواردات الإلهية تأتي من حضرة القهّار، لأجل ذلك لا تصادم شيئًا من الظلمات إلا دمغته، فيقال لتلك الظلمات، التي هي الشكوك والأوهام: لا تركضوا، ولكن ارجعوا أنوارًا، وانقلبوا وارداتٍ وأسرارًا، وتنعموا في محلكم بشهود الحق، لعلكم تُسألون، أي: تُسْتَفْتَوْنَ في الأمور، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى في العلوم، وفي الأمور التي تعرض، قالوا بلسان الحال- أي تلك الظلمات-:
يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين بحجب صاحبنا عن الله، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى صاروا خامدين، هامدين، ساكنين تحت مجاري الأقدار، مطمئنين بالله الواحد القهار، وهذه إشارة دقيقة، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وبالله التوفيق.
ثم بيّن أن إهلاك تلك القرى الظالمة كان لحكمة بليغة ومصلحة بديعة، ولم يكن عبثا لأنه تعالى مُنزه عن اللعب فى خلقه، فقال: