الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني: هلاكًا، أي: صاحوا عند ذلك: واهلاكاه! وهو منصوبٌ على المصدر
(1)
، وقيل
(2)
: على المفعول به.
فصلٌ
عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَن يُكْسَى يومَ القيامة إبليسُ حُلّةً من النار، فيضعها على حاجبَيْه، فيَسْحَبُها مَنْ خَلْفَهُ -وذُرِّيَّتُهُ خلْفَهُ- وهو يقول: واثُبُوراهُ! وهم ينادُون: يا ثُبُورَهُمْ! حتى يقفوا على النار، فيُنادِي: يا ثُبُوراهُ! وينادُون: يا ثُبُورَهُمْ! فيقول اللَّه: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
(3)
.
قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ} يعني: السعير {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وهذا استفهامُ إنكار، وهو ابتداءٌ وخبر، و"أَمْ": عطف على "خَيْرٌ"، وهذه الآية تنبيهٌ على تفاوتِ ما بينَ المنزِلتين، لا على أن في السعير خيرًا.
وقوله: {كَانَتْ لَهُمْ} يعني الجنة للمتقين {جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)} ؛ أي: ثوابًا ومرجعًا، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}: نصبٌ على الحال {كَانَ} الخلودُ {عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} وذلك أنّ اللَّه وَعَدَ المؤمنين الجنةَ على
(1)
بمعنى: ثُبرْنا وُرلبورًا، وهذا قول الفرَّاء وأبِي عبيدة والزَّجّاج، ينظر: معاني القرآن 2/ 263، مجاز القرآن 2/ 71، معاني القرآن وإعرابه 4/ 59.
(2)
بمعنى: دَعَوُا الثُّبُورَ كما يقال: يا عَجَباهُ؛ أي: هذا من أوقاتك فاحضر، قاله النَّحاس في إعراب القرآن 3/ 153.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند 3/ 152 - 154، 249، وينظر: الكشف والبيان 7/ 126، الوسيط 3/ 336، مجمع الزوائد 10/ 392 كتاب صفة النار باب في أهل النار وعلامتها وأول من يكسى حللها.
لسان الرسُل، فسألوه ذلك الوعدَ في الدنيا، فقالوا:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}
(1)
؛ أي: على لسان رسلك
(2)
.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يعني: كفارَ مكةَ ومَن كان يَعْبُدُ غيرَ اللَّهِ، وقَرأَ ابنُ كثير وحفصٌ:{يَحْشُرُهُمْ} بالياء
(3)
، {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنامَ، ثم يَأْذَنُ اللَّهُ تعالى لها فِي الكلام ومُخاطَبَتِه {فَيَقُولُ} ، وقَرأَ ابن عامر:{فنَقُولُ} بالنون
(4)
{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} ؛ أي: أمَرْتُموهم بعبادتكم {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)} ؛ أي: أخطَأوا الطريقَ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} نَزَّهُوا اللَّهَ من أن يكون معه إِلَهٌ يُعْبَدُ {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} قال ابن عباس: أَطَلْتَ لهم العُمُرَ، وأَفْضَلْتَ عليهم، ووَسَّعْتَ لهم فِي الأرزاق {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} يعني: تَركوا الموعِظةَ والإيمانَ بالقرآن {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)} ؛ أي: هَلْكَى قد غَلَبَ عليهم الشقاوةُ والخِذْلَانُ، قال أبو عُبيد
(5)
: وأصله من البَوارِ، وهو الكسادُ والفساد، ومنه: بَوارُ الأَيِّمِ وبَوارُ السلعة. وهو اسمُ مصدر، كالزَّوْر، يستوي فيه الواحدُ
(1)
آل عمران 194.
(2)
قاله الفرَّاء في معاني القرآن 2/ 263، وينظر: عين المعاني ورقة 89/ ب.
(3)
قرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع، وأبو بكر عن عاصمٍ، والحسنُ والشَّنَبُوذِيُّ وطلحةُ وخَلَفٌ:{نَحْشُرُهُمْ} بالنون، وقرأ الباقون، وحَفْصٌ عن عاصمٍ:{يَحْشُرُهُمْ} بالياء، ينظر: السبعة ص 463، حجة القراءات ص 508، البحر المحيط 6/ 447، الإتحاف 2/ 305 - 306.
(4)
وهي أيضًا قراءة الحسن وطلحة والشنبوذي وأبِي حيوة، ينظر: السبعة ص 463، حجة القراءات ص 508، إعراب القراءات السبع 2/ 118، الكشف عن وجوه القراءات 2/ 144، البحر المحيط 6/ 447، الإتحاف 2/ 306.
(5)
ينظر قوله في الكشف والبيان 7/ 127.
والاثنان والجمع، والمذكَّر والمؤنَّث
(1)
، قال ابنُ الزِّبَعْرَى
(2)
حين أسلم:
50 -
يا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسانِي
…
راتِقٌ ما فتقْتُ إِذْ أَنا بُورُ
(3)
وقيل
(4)
: هو جمعُ البائر، يقال: رَجُلٌ بائِرٌ وقَوْمٌ بُورٌ، وهو: الفاسدُ الذي لا خَيْرَ فيه، ويقال: أَصْبَحَتْ منازلُهم بُورًا؛ أي: خاليةً لا شيءَ فيها.
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} يا محمَّد {مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ (20)} إذا دَخَلت اللام لم يكن في "إنَّ" إلا الكسرُ، ولو لم
(1)
هذا قول أكثر العلماء، ينظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/ 264، معاني القرآن للنَّحاس 5/ 14.
(2)
هو: عبد اللَّه بن الزبعرى بن قيس السهمي، أبو سعد القرشي، شاعر قريش في الجاهلية، كان شديدًا على الرسول والمسلمين حتى فتحت مكة، فهرب إلى نجران، ثم عاد إلى مكة، وأسلم واعتذر، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفِّي سنة (15 هـ). [أسد الغابة 3/ 159، 165، الأعلام 4/ 87].
(3)
البيت من الخفيف، لعبد اللَّه بن الزبعرى يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه بعدما جاء مسلمًا، ونُسِبَ لعبد اللَّه بن رواحة، وهو في ديوانه أيضًا، ونُسِبَ لأَبِي سفيان بن الحارث، ويُرْوَى:"يا رسول الإله".
اللغة: الرَّتْقُ: ضد الفَتْقِ، وهو إلحام الفتق وإصلاحه.
التخريج: شعر عبد اللَّه بن الزبعرى ص 72، ديوان عبد اللَّه بن رواحة ص 95، سيرة ابن هشام 4/ 876، مجاز القرآن 1/ 345، 2/ 73، 263، الزاهر 1/ 477، تهذيب اللغة 15/ 267، إعراب ثلاثين سورة ص 23، إعراب القراءات السبع 1/ 47، مقاييس اللغة 1/ 316، المخصص 3/ 48، 14/ 33، 17/ 30، 31، اللسان: بور، اللباب في علوم الكتاب 17/ 490، التاج: بور، ملك.
(4)
قاله الأخفش وأبو عبيدة والجوهري، ينظر: معاني القرآن للأخفش ص 42، مجاز القرآن 2/ 72، الصحاح 2/ 597.
يكن اللامُ ما جاز أيضًا إلّا الكسر؛ لأنها مستأنَفةٌ، هذا قولُ جميع النَّحْويِّين
(1)
، وحُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال: يجوز الفتح في "إِنَّ" هذه وإن كان بعدَها اللامُ
(2)
. قال الصفّار
(3)
: وأظنُّه سهوًا منه.
والحقُّ أنّ اللام لو حُذِفَتْ كان "إنَّ" مكسورةً، نحو: ما قَدِمْتُ عَلَى الأمير إلّا إنه مُكْرِمِي، أي: إلّا وهو مُكْرِمِي حَقًّا، وتقريبُ "إنَّ" بالواو: أَنَّ كليهما يَلِي جملةً مبتدَأةً، والمفتوحة لا يُبْتَدَأُ بها
(4)
، قال الشاعر:
51 -
ما أَعْطَيانِي وَلا سَأَلْتُهُما
…
إِلّا وإِنِّي لَحاجِزِي كرَمِي
(5)
ولو قال: إلّا وإِنِّي يَصُدُّنِي كَرَمِي لَكَسَرَ أيضًا فافهَمْ.
واللام في الآيةِ والشِّعْرِ جَوابُ القَسَمِ، أي: إِلّا إِنَّهُمْ -واللَّهِ- لَيَأْكُلُونَ، وحذفت الواو في الآية كقول الشاعر:
(1)
ينظر في هذه المسألة: الكتاب 3/ 145، 146، معاني القرآن للفرَّاء 1/ 442، 2/ 264، معاني القرآن للأخفش ص 108، 109، معاني القرآن وإعرابه 4/ 62، إعراب القرآن 3/ 155، المسائل المنثورة ص 236 - 238 وغيرها.
(2)
قال المبرد بذلك في المقتضب 2/ 343 وما بعدها، في باب "إنَّ" إذا دخلت اللام في خبرها، وهذه الحكاية حكاها النَّحاس عن الأخفش الأصغر عن المبرد في إعراب القرآن 3/ 155، وينظر أيضًا: الفريد للمنتجب الهمداني 3/ 627.
(3)
يعني أبا جعفر النَّحاس، وانظر: إعراب القرآن 3/ 155
(4)
قاله سيبويه في الكتاب 3/ 145، 146، وينظر: المقتضب للمبرد 2/ 345، والأصول لابن السراج 1/ 264، 274.
(5)
البيت من المنسرح، لكثير عزة يمدح بعض بني مروان، ويروى:"ما أنطَيانِي" بالنون.
التخريج: ديوانه ص 273، الكتاب 3/ 145، معاني القرآن للأخفش ص 108، المقتضب 2/ 345، معاني القرآن وإعرابه 4/ 62، المسائل المنثورة ص 237، شرح التسهيل لابن مالك 2/ 19، ارتشاف الضرب ص 1604، المقاصد النحوية 2/ 308، همع الهوامع 2/ 248.
52 -
وما مَسَّ كَفِّي مِن يَدٍ طابَ رِيحُها
…
منَ النّاسِ إلا رِيحُ كَفَّيْكَ أَطْيَبُ
(1)
قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} يعني: يومَ القيامة {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} ؛ أي: لا بِشارةَ لَهُمْ فِي ذلك اليوم بالجنة والثواب.
ولا يجوزُ أن يكونَ {يَوْمَ يَرَوْنَ} منصوبًا بـ {بُشْرَى} ؛ لأن ما فِي حيِّز النفي لا يعمل فيما قبلَه، ولكنْ فيه تقديران: يجوز أن يكون المعنى: إنهم يُمْنَعُونَ البشارةَ يومَ يرَوْن الملائكة، ودَلَّ على هذا الحذف ما بعدَه، ويجوز أن يكون المعنى: اذْكُرْ يومَ يرَوْن الملائكة
(2)
.
قوله: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} يعني: الملائكةُ يقولون للمجرمين: حِجْرًا مَحْجُورًا؛ أي: حَرامًا مُحَرَّمًا عليكم البُشرى بخير، قال الشاعر:
53 -
أَلا أَصْبَحَتْ أَسْماءُ حِجْرًا مُحَرَّمًا
…
وأَصْبَحْتُ مِنْ أَدْنَى حُمُوَّتها حَما
(3)
(1)
البيت من الطويل، لسلمة بن عياش يمدح جعفر بن سليمان بن عَلِيٍّ، ويروى:
فما شم أنفٌ ريحَ كفٍّ شَمِمْتُها
…
من الناس إلا ريحُ كفِّكَ أطيبُ
التخريج: معاني القرآن للفرَّاء 2/ 83، الأزهية ص 239، التذكرة الحمدونية 2/ 356، المستطرف للأبشيهي 1/ 247.
(2)
من أول قوله: "ولا يجوز أن يكون يوم يرون" قاله النحاس بنصه في إعراب القرآن 3/ 156.
(3)
البيت من الطويل، لعبد اللَّه بن عجلان النهدي، ونُسِبَ لمسافر بن أبِي عمرو، وكانت له امرأة، فطَلَّقَها، وتَزَوَّجَها أخوهُ، ويُرْوَى:
ألا إِن هِندًا أصبَحَت مِنكَ مَحْرَما
…
وأَصبَحتَ مِن أَدنَى حُمُوَّتِها حَما
اللغة: حَما المرأةِ: أبو زوجها وأخو زوجها ومَن كان مِن قِبَلِهِ، يعنى: أصبحتُ أخا زَوْجِها بعد أن كنتُ زوجَها.
التخريج: الشعر والشعراء ص 720، إيضاح الوقف والابتداء ص 804، الأغاني 8/ 49، 50، 51، نشوار المحاضرة للتنوخي 5/ 154، تهذيب اللغة 5/ 272، تفسير القرطبي 13/ 20، اللسان: حمو، التاج: حمو.
أراد: أَلا أصبحتْ أَسْماءُ حَرامًا مُحَرَّمًا، وقيل: معناه: حرامٌ عليكم دخولُ الجنة، وألّا يدخلَها إلّا مَنْ قال: لا إلَه إلا اللَّه. و {حِجْرًا} يُقرَأ بالكسر والفتح والضم
(1)
، وهو منصوبٌ على المصدر
(2)
.
قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} ؛ أي: عَمَدْنا وقصَدْنا إلى عمل الكفارِ الذي عملوه في الدنيا، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} يعني: باطلًا لا ثوابَ له، لأنهم لم يعملوه للَّه، وإنما عملوه للشيطان، والهباء: هو ما يُرَى في الكُوَى من شُعاع الشمس كالغبار، ولا يُمَسُّ بالأيدي، ولا يُرَى في الظل
(3)
، والمنثور: المتفرِّق، والمعنى: أنّ اللَّهَ أحبط أعمالَهم حتى صارت كالهباءِ المنثور.
ثم ذَكَر فضلَ أهل الجنة على أهل النار، فقال:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} يعني: يومَ القيامة {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} أفضلُ مَنْزِلًا في الجنة {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} ، مأخوذٌ من القائلة، وهي: الاستكنان في وقتِ انتصاف النهار، قال الأزهري
(4)
: القَيْلولةُ عند العرب: الاستراحة نصفَ النهار إذا اشتدَّ الحَرّ، وإن لم يكن مع ذلك نَوْمٌ.
والدّليل على ذلك أنّ الجنةَ لا نومَ فيها، قيل فِي التفسير
(5)
: إنه لا ينتصفُ
(1)
قرأ الحسن وأبو رجاء والضحاك: {حُجْرًا} بالضم، وقرأ المُطَّوِّعِيُّ:{حُجُرًا} بضم الحاء والجيم، وقُرِئَ:{حَجْرًا} بفتح الحاء، وقرأه الجمهور:{حِجْرًا} بالكسر، ينظر: تفسير القرطبي 13/ 21، التبيان للعكبَري ص 984، البحر المحيط 6/ 452، الإتحاف 2/ 307.
(2)
وهو من المصادر المُلْتَزَمِ إضمارُ فعلِها، كما ذكر سيبويه في الكتاب 1/ 326؛ أي: حُجِرْنا حِجْرًا، وينظر: الفريد للمنتجب الهمداني 3/ 628، عين المعاني ورقة 92/ أ.
(3)
ينظر: مجاز القرآن 2/ 74، غريب القرآن لابن قتيبة ص 312، جامع البيان 19/ 6.
(4)
تهذيب اللغة 9/ 306.
(5)
قاله ابن مسعود، ينظر: عين المعاني ورقة 92/ أ.
النهار يومَ القيامة حتى يستقرَّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، فتجيءُ القائلةُ وقد فُرِغَ من الأمر، فيَقِيلُ أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، وهما منصوبان على التفسير.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ؛ أي: عن الغمام، والباء و"عَنْ" يتعاقَبانِ كما يقال: رَمَيْتُ بِالقَوْسِ وعنِ القَوْسِ بمعنًى واحد
(1)
، وقيل
(2)
: الباءُ للتعدِية؛ أي: تُشَقِّقُ السماءُ الغمامَ: تُهْوِيها إلى الأرض، وقال أبو عليٍّ الفارسي
(3)
: تَشقَّق السماءُ وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه؛ أي: وعليه سلاحُه وثيابه.
وإنما تنشقُّ السماء بنزول الملائكة، وذلك قولُه تعالى:{وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} ، و {ويَوْمَ تَشَقَّقُ}: عطفٌ على قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} ، واختلف القُرّاءُ فِي قوله:{تَشَقَّقُ} فقرأ أبو عَمْرو وأهلُ الكوفة بتخفيف الشِّين على الحَذْفِ وتَرْكِ الإدغام والتخفيف، هاهنا وفي سورة {ق}
(4)
، وقَرأ الآخَرون بالتشديد فيها، وأدغَموا التاءَ في الشين، على معنى: تَتَشَقَّقُ.
(1)
هذا مذهب الكوفيين والأخفش وابن قتيبة، وهو أن حروف الخفض ينوب بعضها عن بعض، ينظر: معاني القرآن للفرَّاء 2/ 267، معاني القرآن للأخفش ص 46، أدب الكاتب ص 397، غريب القرآن لابن قتيبة ص 312.
(2)
قاله السجاوندي في عين المعاني 92/ ب.
(3)
ينظر قوله في الوسيط للواحدي 3/ 338.
(4)
يعني قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} ق 44، قرأ بالتخفيف هنا وفي سورة ق أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ وخَلَفٌ والأعمشُ واليزيديُّ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الشين فيهما، ينظر: السبعة ص 464، إعراب القراءات السبع 2/ 119، البحر المحيط 6/ 453، الإتحاف 2/ 307.
وقوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} قرأه العامّة {نُزِّلَ} بنونٍ واحدة مع التشديد على الفعل المجهول، وقرأ ابن كثير
(1)
: {نُنْزِلُ} بنونَيْن مع التخفيف ونَصْبِ الملائكة: منَ الإنْزال، وجَعَلَ الفِعْلَ منَ الإنْزالِ والمَصْدَرَ عَلَى "فَعَّلَ"؛ لأَنَّ "أَنْزَلَ" مِثْلُ:"نَزلَ"، كقوله تعالى {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}
(2)
.
قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} يعني: يومَ القيامة {الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} مبتدأٌ وخبر، وأجاز أبو إسحاقَ نصبَ الحق بمعنى: أُحِقُّ الحقَّ، أو: أعني الحقَّ
(3)
، قال ابن عباس: يريدُ أنّ يوم القيامة لا مَلِكَ يقضي فيه غَيْرُهُ {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} عَسُرَ عليهم ذلك اليومُ لشدّتِه ومشقَّتِه، ويُهَوَّنُ على المؤمنين كأَدْنَى صلاةٍ صَلَّوْها في دار الدنيا، وفي الآية تبشيرٌ للمؤمنين، حيث خَصَّ الكافرين بشدة ذلك اليوم وعُسْرِهِ.
قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} يعني: عُقبةَ بنَ أبي مُعَيْط يأكل يدَيْه نَدَمًا وتَحَسُّرًا حتى تذهبا إلى المِرفَقَيْن ثم تَنْبُتانِ، فلا يزال هكذا، كلما نبتت يداه أَكَلَهُما ندامةً على ما فعل، {يَقُولُ يَالَيْتَنِي} فَتَح ياءه أبو عَمْرو
(4)
، وأسكنه الباقون.
(1)
وهي أيضًا قراءة ابن محيصن، ورُوِيتْ عن أبِي عمرو، ينظر: السبعة ص 464، إعراب القراءات السبع 2/ 120، حجة القراءات ص 510، البحر المحيط 6/ 453، الإتحاف 2/ 307 - 308.
(2)
المزمل 8، وينظر: معاني القراءات 2/ 216، الحجة للفارسي 3/ 210، 211.
(3)
يعني: على المفعول المطلق أو على المفعول به، وهذا. في غير القرآن، قال الزَّجّاج:"ولم يُقْرَأْ بها، فلا تَقْرَأَنَّ بها". معاني القرآن وإعرابه 4/ 65.
(4)
ونافعٌ فِي رواية أبي خُلَيْدٍ عنه، ينظر: السبعة ص 464، إعراب القراءات السبع 2/ 120، الإتحاف 2/ 308.
وقوله: {اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)} ؛ أي: اتَّبعتُ محمدًا في الدنيا، واتَّخذت معه سبيلًا إلى الهدى، {يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)} يعني: أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ الجُمَحِيَّ، وكان عُقْبةُ وأُبَيٌّ مُتَخالِلَيْنِ، فأَسلَمَ عُقْبةُ، فقال أُبَيُّ ابن خلف: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرالم إن تابَعْتَ محمدًا، فكَفَرَ وارْتَدَّ، وأَرْضَى خليلَه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية
(1)
.
وأُنْشِدَ في المعنى لأبِي وائلٍ عبد الرحمن بن الحسن:
54 -
تَجَنَّبْ قَرِينَ السُّوءِ واصْرِمْ حِبالَه
…
فَإِنْ لمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحِيصًا فدارِه
وأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ واحْذَرْ مِراءَهُ
…
تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الوُدِّ ما لمْ تُمارِهِ
وفِي الشَّيْبِ ما يَنْهَى الحَلِيمَ عنِ الصِّبا
…
إذا اشْتَعَلَتْ نِيرانُهُ في عِذارِهِ
(2)
وأنشَد أبو بكرِ بن عبد اللَّه الحامِدي:
55 -
اصْحَبْ خِيارَ النّاسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ
…
خَيْرُ الصَّحابةِ مَنْ يكُونُ عَفِيفا
والنّاسُ مِثْلُ دَراهِمٍ مَيَّزْتَها
…
فوَجَدْتَ فِيها فِضّةً وزُيُوفا
(3)
(1)
ينظر: عين المعاني ورقة 92/ أ.
(2)
الأبيات من بحر الطويل، لصالح بن عبد القدوس.
اللغة: اصْرِمْ حِبالَهُ: اقطعها، المحيص: المهرب، دارَى الرجلَ: لايَنَهُ ورَفَقَ به وأَحْسَنَ صحبته، والمُداراة: الملاينة، المِراءُ: الجَدَلُ، عِذارُ الرَّجُلِ: شَعَرُهُ النّابِتُ فِي مَوْضِعِ العِذارِ، والعِذارانِ: جانِبا اللِّحْيةِ.
التخريج: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 72، العقد الفريد 2/ 338، الكشف والبيان 7/ 131، عين المعاني ورقة 92/ أ، تفسير القرطبي 13/ 26، التذكرة الحمدونية 4/ 370.
(3)
البيتان من بحر الكامل، لم أقف على قائلهما.
اللغة: الزُّيُوفُ: جمع زيفُ: وهو مِنْ وَصْفِ الدراهم، يقال: زافَتْ عليه دراهمُهُ؛ أي: صارت مردودة لغشٍّ فيها. =