الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {بَاب التَّخْصِيص} )
لما انْتهى الْكَلَام فِي الْعُمُوم وصيغه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ الْخُصُوص.
فالخاص فِي الِابْتِدَاء أمره ظَاهر، وَإِنَّمَا النّظر فِيمَا إِذا كَانَ عَاما ثمَّ صَار خَاصّا بِدَلِيل، فَهَذَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على بَيَان التَّخْصِيص والمخصص - بِالْفَتْح - والمخصص - بِالْكَسْرِ -.
فَأَما التَّخْصِيص فرسمه: {قصر الْعَام على بعض أَجْزَائِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه مُرَاد من قَالَ على بعض مسمياته، فَإِن مُسَمّى الْعَام جَمِيع مَا يصلح لَهُ اللَّفْظ، لَا بعضه.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: هُوَ قصر الْعَام على بعض مسمياته.
وَوَافَقَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": (هُوَ قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، فَخرج تَقْيِيد الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ قصر مُطلق لَا عَام، كرقبة مُؤمنَة، وَكَذَا الْإِخْرَاج من الْعدَد كعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك، وَدخل مَا عُمُومه بِاللَّفْظِ ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} قصر بِالدَّلِيلِ على غير الذِّمِّيّ وَغَيره مِمَّن عصم بِأَمَان، وَمَا عُمُومه بِالْمَعْنَى كقصر عِلّة الرِّبَا فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ - مثلا - بِأَنَّهُ ينقص إِذا جف على غير الْعَرَايَا.
وَالَّذِي يظْهر أَن الْحَد الَّذِي قدمْنَاهُ مُوَافق لما قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره، وَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، هُوَ كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح فَيكون معنى هَذِه الْحُدُود وَاحِدًا.
لَكِن قَالَ الكوراني: وَإِنَّمَا عدل المُصَنّف عَن حد ابْن الْحَاجِب على مَا فِي بعض الشُّرُوح؛ لِأَن مُسَمّى الْعَام وَاحِد، وَهُوَ كل الْأَفْرَاد، قَالَ: وَهَذَا وهم مِنْهُ؛ لِأَن المُرَاد بالمسميات هِيَ الْآحَاد الَّتِي اشتركت فِي أَمر، كالرجال - مثلا - فَإِنَّهَا مُشْتَركَة فِي معنى الرجل، فَهِيَ مسميات ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهِ لَا مسميات الْعَام؛ وَلذَلِك يصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد أَنه ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك مَعَ توجه الِاعْتِرَاض على عبارَة المُصَنّف من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمُتَبَادر من الْأَفْرَاد هِيَ الجزئيات، كزيد، وَعَمْرو، وَبكر؛ فَإِنَّهَا أَفْرَاد الْإِنْسَان، أَي: جزئياته فَيصدق على كل وَاحِد أَنه إِنْسَان بِخِلَاف
الْعَام فَإِنَّهُ لَا يصدق على تِلْكَ الْأَفْرَاد.
الثَّانِي: أَن أَفْرَاد الْجمع الْمُسْتَغْرق هِيَ الجموع، لَا الوحدان؛ فَيلْزم أَن يكونه معنى الْعُمُوم فِي الرِّجَال يتَنَاوَلهُ جَمِيع الجموع، لَا الوحدان، وَالْمُصَنّف لم يقل بِهِ، وَإِن صَار إِلَى التَّأْوِيل فَإِن المُرَاد هِيَ آحَاد بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَوْجِيه كَلَام الشَّيْخ فَلَا وَجه للعدول عَنهُ.
تَنْبِيه: المُرَاد من قصر الْعَام قصر حكمه، وَإِن كَانَ لفظ الْعَام بَاقِيا على عُمُومه، لَكِن لفظا لَا حكما فبذلك يخرج إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، فَإِن ذَلِك قصر دلَالَة لفظ الْعَام لَا قصر حكمه.
وَقد أورد على تَعْرِيف التَّخْصِيص أَنه إِنَّمَا يكون تَخْصِيصًا بِدَلِيل، فَلم لَا، قيل: قصر الْعَام بدليله؟
وَجَوَابه: أَن الْكَلَام فِي التَّخْصِيص الشَّرْعِيّ فالتقدير قصر الشَّارِع الْعَام على بعض أَفْرَاده فأضيف الْمصدر إِلَى مَفْعُوله وَحذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ المعتزلي: هُوَ {إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب} عَن الْخطاب، لشُمُوله - بِتَقْدِير وجود الْمُخَصّص - جَمِيع الْأَفْرَاد فِي نَفسه، والمخصص أخرج بَعْضهَا عَنهُ.
وَقيل: أَرَادَ مَا يتَنَاوَلهُ بِتَقْدِير عدم الْمُخَصّص، نَحْو قَوْلهم، خص الْعَام فَيرد - إِذا - دور لَا جَوَاب عَنهُ.
وَعند الْآمِدِيّ: تَعْرِيف أَن الْعُمُوم للخصوص، فَيرد الدّور؛ لِأَنَّهُمَا لِمَعْنى وَاحِد.
أُجِيب: المُرَاد فِي الْحَد التَّخْصِيص لُغَة أَخذ فِي حَده اصْطِلَاحا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَيُطلق على قصر لفظ غير عَام على بعض مُسَمَّاهُ كَمَا يُطلق عَام على غير لفظ عَام} ، كعشرة وَالْمُسْلِمين للْعهد.
زَاد بَعضهم وضمائر الْجمع؛ لِأَنَّهَا لَا تدل بِنَفسِهَا.
وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سبق؛ لِأَنَّهَا تَابِعَة للمظهر.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق التَّخْصِيص على قصر اللَّفْظ على بعض مُسَمَّاهُ، وَإِن لم يكن عَاما بالاصطلاح، كإطلاق الْعشْرَة على بعض آحادها، وَكَذَلِكَ يُطلق على اللَّفْظ عَام وَإِن لم يكن عَاما؛ لتعدده كعشرة
وَالْمُسْلِمين المعهودين، لَا الْمُسلمين مُطلقًا، وَإِلَّا كَانَ عَاما اصْطِلَاحا. انْتهى.
قَالَ الْعَضُد: كَمَا يُطلق الْعَام على بعض مسمياته فقد يُطلق على قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته وَإِن لم يكن عَاما، وَذَلِكَ كَمَا يُطلق على اللَّفْظ كَونه عَاما؛ لتَعَدد مسمياته كعشرة، يُقَال لَهُ عَام بِاعْتِبَار آحاده، فَإِذا قصر على خَمْسَة بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ قيل: قد خصص، وَكَذَلِكَ الْمُسلمُونَ للمعهودين، نَحْو: جَاءَنِي مُسلمُونَ، وأكرمت الْمُسلمين إِلَّا زيدا؛ فَإِنَّهُم يسمون الْمُسلمُونَ عَاما، وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ تَخْصِيصًا. انْتهى.
أجَاز الْجُمْهُور التَّخْصِيص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ أمرا أَو نهيا أَو خَبرا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد تعرض ابْن الْحَاجِب، وَغَيره إِلَى حِكَايَة الْخلاف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعَام فَقَالَ: التَّخْصِيص جَائِز إِلَّا عِنْد شذوذ، وَأَرَادَ بذلك أَن الْعَام، سَوَاء كَانَ أمرا، أَو خَبرا، أَو نهيا يجوز أَن يطرقه التَّخْصِيص. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: التَّخْصِيص جَائِز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ فِي الْخَبَر، وَعَن بَعضهم: وَفِي الْأَمر. انْتهى.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي الْكتاب، وَالسّنة.
قَالُوا: يُوهم فِي الْخَبَر الْكَذِب، وَفِي الْأَمر البداء.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: كنسخ الْخَبَر.
فَأجَاب أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والآمدي بِالْمَنْعِ، ثمَّ التَّخْصِيص يبين المُرَاد بِاللَّفْظِ، والنسخ رفع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن مُقْتَضى إِيرَاد جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن، والآمدي: أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيص الْعَام إِذا كَانَ خَبرا لَا أمرا، أَو نهيا فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف.
وَيرد ذَلِك كُله وُرُود مَا هُوَ مَخْصُوص قطعا، نَحْو:{الله خلق كل شَيْء} [الزمر: 62]، {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] ، {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] ، {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا} [الْكَهْف: 84] .
وَفِي الْأَمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5]، وَفِي النَّهْي:{وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] مَعَ أَن بعض القربان غير مَنْهِيّ عَنهُ قطعا.
بل قَالُوا: لَا عَام إِلَّا وطرقه التَّخْصِيص إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة.
قَوْله: وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، أَي: لعام مُؤَكد، فالعام إِذا أكد لَا يمْنَع تَخْصِيصه على أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهُمَا جمع من الْعلمَاء وصححوا الْجَوَاز، وَنقل القَوْل بِالْمَنْعِ من ذَلِك أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن بَعضهم، وَجزم بِهِ الْمَازرِيّ، مستندين إِلَى التَّأْكِيد لنفي الْمجَاز، وَلِهَذَا وَقع الْجَواب فِي قَوْله تَعَالَى:{يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله} [آل عمرَان: 154] على قِرَاءَة نصب (كُله) ؛ لِأَنَّهُ لَو لم يكن معينا للْعُمُوم لما وَقع جَوَابا لمن قَالَ: {هَل لنا من الْأَمر من شَيْء} ، وَلَكِن الْأَصَح أَنه يخصص بِدَلِيل {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيس} [الْحجر: 30، 31] إِذا قدر مُتَّصِلا.
وَفِي الحَدِيث: " فأحرموا كلهم إِلَّا أَبَا قَتَادَة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي " الْبُرْهَان " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن الْجَوَاز قَضِيَّة كَلَام الْأَشْعَرِيّ، وَصرح بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، بل ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ فِي بَاب النّسخ أَنه إِجْمَاع. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا لَهُ شُمُول حسا أَو حكما} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا يَصح توكيده بِكُل، وَهُوَ مَا لَهُ شُمُول حسا، نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم، أَو حكما نَحْو: اشْتريت العَبْد.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي: لَا يَسْتَقِيم التَّخْصِيص إِلَّا بِمَا فِيهِ معنى الشُّمُول، وَيصِح توكيده بِكُل ليَكُون ذَا أَجزَاء يَصح اقترانها إِمَّا حسا ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، أَو حكما كاشتريت الْجَارِيَة كلهَا لِإِمْكَان افْتِرَاق أَجْزَائِهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن عقيل: التَّخْصِيص والنسخ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا يتَنَاوَل أفعالنا الْوَاقِعَة فِي الْأَزْمَان، والأعيان فَقَط، وَالْفُقَهَاء والمتكلمون أَكْثرُوا القَوْل بِأَن النّسخ يتَنَاوَل الْأَزْمَان فَقَط، والتخصيص يتَنَاوَل الْجَمِيع، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ المحصلون تجوزا. انْتهى.