الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقلا؛ إِذْ الْقرْيَة، وَالْعير لَا يسألان.
وَمثله: {أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} [الشُّعَرَاء: 63] أَي: فَضرب فانفلق، وَمثله:{فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] أَي: فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام أخر.
وَالثَّالِث: كَقَوْل الْقَائِل: اعْتِقْ عَبدك عني على كَذَا، أَو مجَّانا، فَإِنَّهُ فِي الأول بيع ضمني، وَفِي الثَّانِي هبة ضمنية؛ لاستدعائه سبق الْملك لتوقف الْعتْق عَلَيْهِ فدلالة اللَّفْظ دلَالَة اقْتِضَاء.
وَأما الثَّانِي - وَهُوَ مَا يكون غير مَقْصُود للمتكلم - فَهُوَ كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
أَنه قَالَ: " النِّسَاء ناقصات عقل وَدين "، قيل: وَمَا نُقْصَان دينهن؟ قَالَ: " تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر عمرها لَا تصلي " لم
يقْصد صلى الله عليه وسلم َ - بَيَان أَكثر الْحيض وَأَقل الطُّهْر، لكنه لزم من اقْتِضَاء الْمُبَالغَة ذكر ذَلِك.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} [الْأَحْقَاف: 15] مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وفصاله فِي عَاميْنِ} [لُقْمَان: 14] يلْزم أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى:{أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] يلْزم مِنْهُ جَوَاز الإصباح جنبا.
وَقد حُكيَ هَذَا الاستنباط عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ من أَئِمَّة التَّابِعين.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فالئن باشروهن} إِلَى قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم} كل ذَلِك يُسمى دلَالَة إِشَارَة.
قَوْله: {وَإِن لم يتَوَقَّف واقترن بِحكم لَو لم يكن لتعليله كَانَ بَعيدا} فيفهم مِنْهُ التَّعْلِيل، وَيدل عَلَيْهِ، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؛ {وَيُسمى تَنْبِيها وإيماء} ،
وَسَيَأْتِي فِي بَاب الْقيَاس فِي الثَّانِي من مسالك الْعلَّة بأقسام مفصلة.
تَنْبِيه: جعل دلَالَة الِاقْتِضَاء، وَالْإِشَارَة من أَقسَام الْمَنْطُوق، وَكَذَلِكَ دلَالَة التَّنْبِيه والإيماء، وَهِي طَريقَة ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَجَمَاعَة، وَنحن تابعناهم على ذَلِك، وَهُوَ خلاف مَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره من كَونهَا أقساما للمفهوم.
وقوى هَذَا بَعضهم، وَتعقب على ابْن الْحَاجِب مَا صنع مَعَ قَوْلنَا: أَن الْمَنْطُوق مَا دلّ فِي مَحل النُّطْق، وَالْمَفْهُوم فِي غير مَحل النُّطْق فَأَيْنَ دلَالَة مَحل النُّطْق فِي هَذَا؟
وَقد وَقع بَين القونوي والأصفهاني بحث فِي ذَلِك وكتبا فِيهِ رسالتين، وانتصر الْأَصْفَهَانِي لِابْنِ الْحَاجِب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن للفظ دلَالَة عَلَيْهَا من حَيْثُ هُوَ مَنْطُوق بِخِلَاف الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يدل من [حَيْثُ] هُوَ قَضِيَّة عقلية خَارِجَة عَن اللَّفْظ.
قَالَ بعض شُيُوخنَا: وَيُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك وَاسِطَة بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم؛ وَلِهَذَا اعْترف بهَا من يُنكر الْمَفْهُوم.
قَوْله: {وَسمي فِي " الْعدة " الْإِضْمَار} إِلَى آخِره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وسمى فِي " الْعدة " الْإِضْمَار مَفْهُوم الْخطاب وفحواه، ولحنه، وَسَماهُ فِي " التَّمْهِيد " لحن الْخطاب، قَالَ: وَمعنى الْخطاب الْقيَاس، وسمى الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "{مَا فهم مِنْهُ التَّعْلِيل إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْخطاب، ولحنه} .
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فهم التَّعْلِيل من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الْمُنَاسب ك {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يفهم مِنْهُ كَون السّرقَة عِلّة فَلَيْسَ بمنطوق، وَلَكِن يسْبق إِلَى الْفَهم من فحوى الْكَلَام، وَكَذَا قَوْله:{إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] أَي: لبرهم، وفجورهم، وَهَذَا قد يُسمى إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْكَلَام ولحنه.
وَهَذَا كُله مُجَرّد اصْطِلَاح.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: النَّص الصَّرِيح، زَاد القَاضِي، وَابْن الْبَنَّا: وَإِن احْتمل غَيره} .
{و} قَالَ {الْمجد} بن تَيْمِية: {مَا أَفَادَ الحكم يَقِينا أَو ظَاهرا، وَنقل عَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ.
وَقيل: يَقِينا} .
{و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة ": {مَا أَفَادَ الحكم بِنَفسِهِ بِلَا احْتِمَال أَو احْتِمَال لَا دَلِيل عَلَيْهِ} .
وَيُطلق على الظَّاهِر، وَلَا مَانع مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الظُّهُور، فالنص لُغَة: الْكَشْف والظهور وَمِنْه: نصت الظبية رَأسهَا، أَي: رفعته وأظهرته، وَمِنْه
منصة الْعَرُوس، وَقَالَهُ المطرزي.
قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: حد النَّص فِي الشَّرْع مَا عري لَفظه عَن الشّركَة وَمَعْنَاهُ عَن الشَّك.
وَقَالَ آخَرُونَ: النَّص هُوَ الْخطاب الْوَاقِع على غير وَاحِد.
قَالَ الْقَرَافِيّ: للنَّص ثَلَاثَة اصْطِلَاحَات:
أَحدهَا: مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل.
الثَّانِي: مَا احتمله احْتِمَالا مرجوحا كَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْغَالِب فِي إِطْلَاق الْفُقَهَاء.
الثَّالِث: مَا دلّ على معنى كَيفَ [مَا] كَانَ. انْتهى.
وَزَاد ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره رَابِعا، وَهُوَ: دلَالَة الْكتاب وَالسّنة مُطلقًا، وَهُوَ اصْطِلَاح كثير من متأخري الخلافيين، وَعَلِيهِ مَشى الْبَيْضَاوِيّ فِي الْقيَاس.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَمَا يُطلق النَّص فِي مُقَابلَة الظَّاهِر يُطلق أَيْضا فِي مُقَابلَة الاستنباط، فَيُقَال مثلا: دلّ عَلَيْهِ النَّص وَالْقِيَاس، فَهُوَ أَعم من أَن لَا يكون مَعَه احْتِمَال آخر، أَو مَعَه.
وَهَذَا كَمَا سَيَأْتِي أَن الْعلَّة إِمَّا منصوصة، أَو مستنبطة، وَفِي أَن شَرط الْفَرْع أَن لَا يكون مَنْصُوصا، وَنَحْو ذَلِك، وَمن هَذَا قَوْلهم: نَص الشَّافِعِي [على] كَذَا فِي مُقَابلَة قَول مَرْجُوح أَو نَحوه يعنون أَعم من النَّص، وَالظَّاهِر. انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي كتاب " الْإِيضَاح ": {الْمَقْطُوع بِهِ اللَّفْظ الدَّال دلَالَة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل} .
قَوْله: {وَمَفْهُوم} . هَذَا مَعْطُوف على قَوْلنَا فِي أول الْبَاب: الدّلَالَة مَنْطُوق، أَي: الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم.
وَهُوَ {مَا دلّ عَلَيْهِ} اللَّفْظ {لَا فِي مَحل النُّطْق} ، وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لكل مَا فهم من نطق، أَو غَيره؛ لِأَنَّهُ اسْم مفعول فهم يفهم، لَكِن
اصْطَلحُوا على اخْتِصَاصه بِهَذَا، أَو هُوَ الْمَفْهُوم الْمُجَرّد الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى النُّطْق، لَكِن فهم من غير تَصْرِيح بالتعبير عَنهُ، بل لَهُ استناد إِلَى طَرِيق عَقْلِي.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتَفَادَ الحكم من الْمَفْهُوم مُطلقًا، هَل هُوَ بِدلَالَة الْعقل من جِهَة التَّخْصِيص بِالذكر، أم مُسْتَفَاد من اللَّفْظ؟ على قَوْلَيْنِ.
قطع أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " بِالثَّانِي فَإِن اللَّفْظ لَا يشْعر بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دلَالَته بِالْوَضْعِ، لَا شكّ أَن الْعَرَب لم تضع اللَّفْظ ليدل على شَيْء مسكوت عَنهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يشْعر بِهِ بطرِيق الْحَقِيقَة، أَو بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ الْمَفْهُوم وَاحِدًا مِنْهُمَا.
وَلَا خلاف أَن دلَالَته لَيست وضعية، إِنَّمَا هِيَ إشارات ذهنية من بَاب التَّنْبِيه بِشَيْء على شَيْء.
إِذا علم ذَلِك فالمفهوم نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَفْهُوم الْمُوَافقَة.
وَالثَّانِي: مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
فمفهوم الْمُوَافقَة أَن يكون الْمَسْكُوت مُوَافقا لمنطوق فِي الحكم،
{وَيُسمى فحوى الْخطاب، ولحن الْخطاب} .
فلحن الْخطاب مَا لَاحَ فِي أثْنَاء اللَّفْظ، قَالَ الْآمِدِيّ: أَي معنى الْخطاب. {زَاد} القَاضِي {فِي " الْعدة " و} أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد ": وَمَفْهُوم الْخطاب، وَسَماهُ الْمُوفق فحواه، وسمى جمَاعَة} - مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبيضاوي - {لحن الْخطاب} .
{وَالْأولَى فحواه} ، وَيَأْتِي قَرِيبا، مِثَال فحوى الْخطاب مَا يفهم مِنْهُ بطرِيق الْقطع، كدلالة تَحْرِيم التأفيف على تَحْرِيم الضَّرْب، فَهُوَ أولى مِنْهُ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ أَشد مِنْهُ.
وَمِثَال لحن الْخطاب أَي: معنى الْخطاب مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} [مُحَمَّد: 30] أَي: فِي مَعْنَاهُ، كتحريم
إحراق مَال الْيَتِيم الدَّال عَلَيْهِ نظرا فِي الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} [النِّسَاء: 10] فالإحراق مسَاوٍ لأكل مَالهم بِوَاسِطَة الْإِتْلَاف فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَسَماهُ بَعضهم كَمَا تقدم لحن الْخطاب، وَالَّذِي قبله فحوى الْخطاب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما تَسْمِيَة الأولوي بفحوى الْخطاب، والمساوي بلحن الْخطاب فَعَلَيهِ قوم من أَصْحَابنَا، وَبَعْضهمْ يُسَمِّي الأولوي بالاسمين مَعًا.
وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: مَا سبق.
وَالثَّانِي: أَن الفحوى مَا نبه عَلَيْهِ اللَّفْظ، واللحن مَا يكون محالا على غير المُرَاد فِي الأَصْل والوضع، وَالْمَفْهُوم مَا يكون المُرَاد بِهِ الْمظهر والمسقط. انْتهى.
إِذا عرفت ذَلِك فتحريم الضَّرْب من قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى، وَهُوَ التأفيف على الْأَعْلَى وَهُوَ الضَّرْب، وتأدية مَا دون القنطار من قَوْله تَعَالَى:{يؤده إِلَيْك} [آل عمرَان:
75 -
] فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} من بَاب التَّنْبِيه بالأعلى وَهُوَ تأدية القنطار على الْأَدْنَى، وَهُوَ تأدية مَا دونه. هَكَذَا قَالَ جمَاعَة، مِنْهُم الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ".
وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": حَقِيقَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة لَا تنفك عَن التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] ، {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك} فَإِن التأفيف والذرة وَالدِّينَار تدل على أَن الحكم فِي الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى.
وَفِي " الْمُنْتَهى " هُوَ التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وبالأعلى على الْأَدْنَى، وَحذف الثَّانِي فِي " الْمُخْتَصر "، وَاقْتصر على الْقسم الأول؛ لِأَنَّهُ يُوجد معنى الْأَدْنَى على وَجه يَشْمَل معنى الْأَعْلَى كالمناسبة، مثلا يُقَال: التأفيف
أدنى مُنَاسبَة بِالتَّحْرِيمِ من الضَّرْب، والذرة أدنى مُنَاسبَة بالجزاء من الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالْقِنْطَار، وَإِن كَانَ أَعلَى من الدِّينَار لكنه أدنى مُنَاسبَة للتأدية من الدِّينَار، فيكتفي بالأدنى على الْأَعْلَى؛ لاندراج الْكل تَحْتَهُ، وَإِذا كَانَ الْمَذْكُور أدنى مُنَاسبَة كَانَ الْمَسْكُوت عَنهُ أَشد مُنَاسبَة بالحكم، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن لَا تعد الْمُسَاوَاة من مَفْهُوم الْمُوَافقَة كالاستدلال بِحرْمَة أكل مَال الْيَتِيم على حُرْمَة إحراق مَاله؛ إِذْ لَا مزية فِي اسْتِحْقَاق الْإِثْم لأَحَدهمَا على الآخر، وَقد عدده الْغَزالِيّ مِنْهُ.
نَص الْغَزالِيّ وَغَيره أَنه مُجَرّد ذكر الْأَدْنَى لَا يحصل مِنْهُ التَّنْبِيه على الْأَعْلَى مَا لم يعلم الْمَقْصُود من الْكَلَام، وَمَا سيق لَهُ فلولا معرفتنا بِأَن الْآيَة إِنَّمَا سيقت لتعظيم الْوَالِدين لما فهمنا حُرْمَة الضَّرْب من قَوْله:{فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِذْ قد يَأْمر السُّلْطَان بقتل إِنْسَان وَيَقُول لَهُ: لَا تقل لَهُ أُفٍّ، وَلَكِن اضْرِب عُنُقه. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " والطوفي وَغَيرهمَا.
وَالصَّحِيح أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة قِسْمَانِ: قسم يكون أولى بالحكم، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقسم يكون مُسَاوِيا، وَقد تقدم مثالهما.
وَهَذَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ ظَاهر استدلالات الْأَئِمَّة.
وَقيل: لَا يكون مَفْهُوم الْمُوَافقَة مُسَاوِيا للمنطوق، وَهُوَ مُقْتَضى نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للْأَكْثَر، وَبِه قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة وَإِن كَانَ مثل الأولى فِي الِاحْتِجَاج بِهِ قَالُوا: وَالْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، وَأما الِاحْتِجَاج فيحتج بالمساوي كاحتجاجهم بِالْأولَى، وَلذَلِك قُلْنَا وَهُوَ لَفْظِي، أَي: الْخلاف فِي اللَّفْظ لَا فِي الْمَعْنى.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حجَّة، ذكره بَعضهم إِجْمَاعًا لتبادر فهم
الْعُقَلَاء، وَاخْتلف النَّقْل عَن دَاوُد.
قَوْله: {ودلالته لفظية} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل هِيَ لفظية، أَو قِيَاس؟ على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن دلَالَته لفظية، وَهُوَ الصَّحِيح، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ من أَصْحَابه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ عَن أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْحَنَفِيَّة، والمالكية،
وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والظاهرية، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي تبعا لأصليهما، وَنَقله سليم فِي " التَّقْرِيب " عَن الْمُتَكَلِّمين بأسرهم من الأشعرية والمعتزلة، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة دلَالَة النَّص.
وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب بِأَنَّهُ يفهم لُغَة قبل شرع الْقيَاس ولاندراج أَصله فِي فَرعه، نَحْو: لَا تعطه ذره.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام، ويشترك فِي فهمه اللّغَوِيّ وَغَيره بِلَا قرينَة.
ثمَّ لَهُم على هَذَا القَوْل مذهبان:
أَحدهمَا: أَنَّهَا لفظية فهمت من السِّيَاق والقرائن، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ والآمدي، وَقَوله فِي " جمع الْجَوَامِع " عَنْهُمَا فهمت من السِّيَاق والقرائن،
وَهِي مجازية من إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، هُوَ مِمَّا تصرف فِيهِ من نَفسه، وَإِلَّا فَلَيْسَ هَذَا من كَلَام الْغَزالِيّ والآمدي، وَإِنَّمَا كَلَامهمَا أَنَّهَا فهمت من السِّيَاق والقرائن لَا غَيره.
وَقد رَأَيْت كَلَام الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " فَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمجَاز أَلْبَتَّة، وَلِهَذَا قَالَ الكوراني: وَلَيْسَ فِي كَلَام الْغَزالِيّ ذكر الْمجَاز لَا صَرِيحًا، وَلَا كِنَايَة، قَالَ: وَمَا زَعمه المُصَنّف - يَعْنِي ابْن السُّبْكِيّ - من أَن الدّلَالَة الْمَذْكُورَة مجازية غير مُسْتَقِيم؛ لِأَن الْمجَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ لعلاقة بَين الْمَعْنيين، أَو الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا وضع لَهُ، لعلاقة مَعَ قرينَة دَالَّة على عدم جَوَاز إِرَادَة مَا وضع لَهُ وَلَا شكّ أَن قَوْله تَعَالَى:{فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، غَايَته أَنه علم مِنْهُ حُرْمَة الضَّرْب بقرائن الْأَحْوَال، وَسِيَاق الْكَلَام، وَاللَّفْظ لَا يصير بذلك مجَازًا، فَكَأَنَّهُ لم يفرق بَين الْقَرِينَة المفيدة للدلالة والقرينة الْمَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَالثَّانيَِة هِيَ اللَّازِمَة للمجاز دون الأولى. انْتهى.
وَقد أَجَاد ثمَّ قَالَ: وَالْعجب أَن شرَّاح كَلَامه لم ينتبهوا لهَذَا مَعَ ظُهُوره. انْتهى.
وَظَاهر كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه " أَنه جعل قَوْله: (وَهِي مجازية) إِلَى آخِره من كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي، وَلَيْسَ كَذَلِك لما ذكرنَا.
وَأما الْمحلي فِي " شَرحه " فتردد فِي ذَلِك هَل هُوَ من كَلَامهمَا أَو من كَلَام المُصَنّف؟ وَلَو عاود كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي؛ لعلم أَن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ من كَلَامهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من تَصَرُّفَات المُصَنّف.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَن اللَّفْظ لَهَا عرفا، فَهِيَ لفظية حَقِيقَة.
نقل اللَّفْظ فِي الْعرف من وَضعه الْأَصْلِيّ لثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور خَاصَّة إِلَى ثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور، والمسكوت مَعًا. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
ثمَّ قَالَ: قَالَ الشَّارِح - وَهُوَ الزَّرْكَشِيّ -: وَهَذَا الَّذِي أَخّرهُ المُصَنّف وَضَعفه هُوَ الَّذِي ذكره المُصَنّف فِي الْعُمُوم حَيْثُ قَالَ: وَقد يعم اللَّفْظ عرفا كالفحوى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: قلت لَعَلَّه مثل بِهِ هُنَاكَ لهَذَا الْقسم على رَأْي مَرْجُوح. انْتهى.
لَكِن قَالَ الكوراني عَن هَذَا القَوْل: يَعْنِي ذهبت طَائِفَة إِلَى أَن اللَّفْظ صَار حَقِيقَة عرفية فِي الْمَعْنى الالتزامي الَّذِي هُوَ الضَّرْب فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} صَار اللَّفْظ حَقِيقَة فِي المجازاة فِي الْأَكْثَر.
ثمَّ قَالَ: وَهَذَا القَوْل بَاطِل؛ لِأَن الْمُفْردَات كلهَا مستعملة فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة بِلَا ريب مَعَ إِجْمَاع السّلف على أَن فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة إِلْحَاقًا لفرع بِأَصْل، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن ذَلِك بِالشَّرْعِ أَو باللغة، وَعند الْحَنَفِيَّة، يُسمى دلَالَة النَّص وهم مجمعون على أَن هَذِه الدّلَالَة تفهم لُغَة، وَلَا حَاجَة إِلَى مُلَاحظَة الشَّرْع فِي ذَلِك. انْتهى.
{وَعند الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن أبي مُوسَى، والجوزي، وَأبي الْخطاب، والحلواني، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل، والطوفي من
أَصْحَابنَا {قِيَاس جلي} ؛ لِأَنَّهُ لم يلفظ بِهِ، وَإِنَّمَا حكم بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرك فَهُوَ من بَاب الْقيَاس قيس الْمَسْكُوت على الْمَذْكُور قِيَاسا جليا؛ فَإِنَّهُ إِلْحَاق فرع بِأَصْل لَعَلَّه مستنبطة فَيكون قِيَاسا شَرْعِيًّا لصدق حَده عَلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِي بذلك فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي الْقيَاس الْجَلِيّ كَون الحكم فِي الْمَقِيس أولى من الْمَقِيس عَلَيْهِ.
ورد: بِأَن الْمَعْنى شَرط لدلَالَة الملفوظ عَلَيْهِ لُغَة بِخِلَاف الْقيَاس.
وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية: إِن قصد التَّنْبِيه فَلَيْسَ قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ المُرَاد، وَإِن قصد الْأَدْنَى فَقِيَاس.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الِاحْتِجَاج فِي مثل صُورَة الفحوى الْمَذْكُورَة على الْمَسْكُوت بِحكم الْمَذْكُور هَل هُوَ بطرِيق الْمَفْهُوم، أَو بطرِيق آخر؟
وَإِذا قُلْنَا بطرِيق آخر فَمَا هُوَ؟ وَحَاصِل مَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال، مَعَ الأول تصير أَرْبَعَة:
الأول مِنْهَا: بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَشْهُور.
وَالثَّانِي: إِنَّه من بَاب الْقيَاس.
وَالثَّالِث: إِن اللَّفْظ الدَّال على الْأَخَص نقل عرفا إِلَى الْأَعَمّ، فَنقل:{فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى معنى وَلَا تؤذهما.
وَالرَّابِع: إِنَّه أطلق على الْأَعَمّ إطلاقا مجازيا من بَاب إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، وَلم يبلغ فِي الاشتهار أَن يصير حَقِيقَة عرفية، وَإِنَّمَا دلّ على إِرَادَة الْمجَاز فِيهِ السِّيَاق والقرائن.
وَقَالَ بِهِ كثير من الْمُحَقِّقين كالغزالي فِي مَوضِع، وَإِن كَانَ فِي مَوضِع أطلق أَن النَّص دلّ عَلَيْهِ بالفحوى، فَإِنَّهُ جرى هُنَا على الْمَشْهُور، وحقق هُنَاكَ، قَالَ: وَالْحق أَن لَهُ جِهَتَيْنِ: جِهَة هُوَ بهَا قِيَاس حَقِيقَة، وجهة هُوَ بهَا مُسْتَند إِلَى اللَّفْظ، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للشَّيْء اعتباران، فَلذَلِك أجمع على القَوْل بِهِ مثبتو الْقيَاس ومنكروه كل نظر إِلَى جِهَة.
فَائِدَة: اخْتلف هَل لهَذَا الْخلاف - أَعنِي هَل هُوَ لَفْظِي أَو قِيَاس - فَائِدَة، أَو الْخلاف لَفْظِي؟ قيل: الْخلاف لَفْظِي، وَالصَّحِيح خِلَافه، بل من فَوَائده أَنه إِذا قُلْنَا دلَالَته لفظية يجوز النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: أَنه يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر إِن كَانَ قِيَاسا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه فِي " المنخول ". وَقَالَ الْأُسْتَاذ: وَهُوَ قِيَاس، وَلَا يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ أقوى.