الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
{ينْسَخ الْإِنْشَاء، وَالأَصَح لَو بِلَفْظ الْقَضَاء أَو الْخَبَر أَو قيد بالتأبيد أَو الحتم} .
لَا شكّ فِي جَوَاز نسخ الْإِنْشَاء إِذا كَانَ بِلَفْظ الْإِنْشَاء، وَقد تقدم لَهُ صور، وَهَذَا إِجْمَاع فِي الْجُمْلَة، أما إِذا كَانَ الْإِنْشَاء بِلَفْظ الْخَبَر، أَي: تكون صُورَة اللَّفْظ خَبرا، وَمَعْنَاهُ إنْشَاء وَذَلِكَ فِي صور:
إِحْدَاهَا: أَن يكون بِلَفْظ الْقَضَاء، كَقَوْلِك: قضى بِكَذَا، أَو كَذَا، قَالَ الله تَعَالَى:{وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} [الْإِسْرَاء: 23]، أَي: أَمر، وَهَذَا يجوز نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز نسخه؛ لِأَن الْقَضَاء إِنَّمَا يسْتَعْمل فِيمَا لَا يتَغَيَّر كالآية الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": وَهَذَا القَوْل غَرِيب لَا يعرف فِي كتب الْأُصُول، إِنَّمَا أَخذه المُصَنّف من كتب التَّفْسِير. انْتهى.
الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن يكون بِصِيغَة الْخَبَر، سَوَاء كَانَ بِمَعْنى الْأَمر أَو النَّهْي، نَحْو:{والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233]، {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228] ، {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} [الْبَقَرَة: 233] ، فَقَالَ الْجُمْهُور: يجوز نسخه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ، فَإِن مَعْنَاهُ الْإِنْشَاء.
وَقَالَ أَبُو بكر الدقاق: يمْتَنع نسخه بِاعْتِبَار لَفظه.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب عَنهُ فِيهِ خلافًا، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن يُقَال: لكَونه على صُورَة الْخَبَر.
الصُّورَة الثَّالِثَة: إِذا قيد الحكم بِلَفْظ التَّأْبِيد، وَنَحْوه بجملة فعلية مثل: صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء أبدا، أَو حتما، أَو غَيره مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا دَائِما، أَو مستمرا، فَيجوز بعد ذَلِك نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة أَبُو بكر الْجَصَّاص، وَأَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَأَبُو زيد الدبوسي، والبزدويان الأخوان.
قَالُوا: لمناقضته الأبدية، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى البداء.
وَجَوَابه: أَن ذَلِك إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْمُبَالغَة، لَا الدَّوَام، كَمَا يَقُول: لَازم غريمك أبدا، وَإِنَّمَا يُرِيد لَازمه إِلَى وَقت الْقَضَاء، فَيكون المُرَاد هُنَا لَا تخل بِهِ إِلَى أَن يتقضى وقته، وكما يجوز تَخْصِيص عُمُوم مُؤَكد بِكُل وَيمْنَع التَّأْبِيد عرفا، وبالإلزام بتخصيص عُمُوم مُؤَكد، وَالْجَوَاب وَاحِد.
قَالُوا: إِذا كَانَ الحكم لَو أطلق الْخطاب مستمرا إِلَى النّسخ فَمَا الْفَائِدَة فِي التَّقْيِيد بالتأبيد؟
قُلْنَا: فَائِدَته التَّنْصِيص، والتأكيد، وَأَيْضًا فَلفظ الْأَبَد إِنَّمَا مَدْلُوله الزَّمَان المتطاول.
الصُّورَة الرَّابِعَة: أَن يُقيد بالتأبيد بجملة اسمية كَالصَّوْمِ وَاجِب مُسْتَمر أبدا، إِذا قَالَه على مَسْأَلَة الْإِنْشَاء فالجمهور على جَوَاز نسخه؛ لِأَن الْخَبَر عَن الحكم كالإنشاء فِي جَوَاز النّسخ بِهِ، لَكِن هَل يجوز مَا قيد بِهِ بالتأبيد، أَو يمْتَنع؟
الْجُمْهُور - كَمَا قُلْنَا - على الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِمَنْزِلَة الْفِعْل، كَذَا أبدا، وَوَقع فِي ابْن الْحَاجِب عبارَة تحْتَمل الْمَنْع فِي ذَلِك وتحتمل أَن يُرَاد بهَا غَيره.
فَقَالَ: الْجُمْهُور جَوَاز نسخ مثل: صُومُوا أبدا بِخِلَاف الصَّوْم مُسْتَمر
أبدا. هَذَا لَفظه، ففهم بعض شراحه شَيْئا، وَقد اخْتلف الْأَصْفَهَانِي، والعضد فِي حل لَفظه، وَالصَّوَاب مَا قَالَه القَاضِي عضد الدّين وَوَافَقَهُ ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَبَر إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء جَازَ أَن ينْسَخ كَمَا سبق، فمسألتا ابْن الْحَاجِب مستويتان. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز نسخ إِيقَاع الْخَبَر مُطلقًا، ونسخه بنقيضه خلافًا للمعتزلة} .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": نسخ الْخَبَر لَهُ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: نسخ إِيقَاع الْخَبَر بِأَن يُكَلف الشَّارِع أحدا بِأَن يخبر بِشَيْء من عَقْلِي أَو عادي أَو شَرْعِي، كوجود الْبَارِي، وإحراق النَّار، وإيمان زيد، ثمَّ ينسخه فَهَذَا جَائِز اتِّفَاقًا، وَهل يجوز نسخه بنقيضه؟ أَي: بِأَن يكون الْإِخْبَار بنقيضه، الْمُخْتَار جَوَازه خلافًا للمعتزلة، ومبناه أصلهم فِي حكم الْعقل؛ لِأَن أَحدهمَا كذب فالتكليف بِهِ قَبِيح، وَقد علمت فَسَاده.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الثَّالِث: أَن يُرَاد مَعَ نسخه التَّكْلِيف بالإخبار بضد الأول، إِلَّا أَن الْمخبر بِهِ مِمَّا لَا يتَغَيَّر كالإخبار بِكَوْن السَّمَاء فَوق الأَرْض ينْسَخ بالإخبار بِأَن السَّمَاء تَحت الأَرْض، وَذَلِكَ جَائِز، وَخَالفهُ الْمُعْتَزلَة فِيهِ - كَمَا قَالَ الْآمِدِيّ - محتجين بِأَن أَحدهمَا كذب، والتكليف بِهِ قَبِيح فَلَا يجوز عقلا، وَهُوَ بِنَاء على قاعدتهم الْبَاطِلَة فِي التحسين والتقبيح العقليين.
فَإِن قيل: الْكَذِب نقص وقبحه بِاتِّفَاق فَلم لَا يمْتَنع ذَلِك؟
وَالْجَوَاب: أَن الْقبْح فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لفَاعِله، لَا بِاعْتِبَار التَّكْلِيف بِهِ، بل إِذا كلف بِهِ صَار جَائِزا فَلَا يكون قبيحا؛ إِذْ لَا حسن، وَلَا قبح إِلَّا بِالشَّرْعِ لَا سِيمَا إِذا تعلق بِهِ غَرَض شَرْعِي فَإِنَّهُ من حَيْثُ ذَلِك يكون حسنا. انْتهى.
وَقد اسْتشْهد لذَلِك بمسائل.
قَوْله: {لَا نسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم فَمَا لَا يتَغَيَّر، فَلَا يجوز فِيهِ النّسخ بِالْإِجْمَاع، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن برهَان، وَذَلِكَ كصفات الله تَعَالَى، وأخبار مَا كَانَ وَمَا يكون، وأخبار الْأَنْبِيَاء عليهم السلام، وأخبار الْأُمَم السالفة، وَالْأَخْبَار عَن السَّاعَة وأمارتها وَنَحْوه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا.
قَوْله: {وَلَا خبر يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد، وكفره} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد - مثلا - وكفره فَلَا يجوز نسخه أَيْضا على الْأَصَح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: مَنعه جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين، فَمن أَصْحَابنَا ابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة ".
وَمن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كالصيرفي، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، والباقلاني، والجبائي، وَابْنه أبي هَاشم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: هُوَ الْحق.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَأَبُو عبد الله، وَأَبُو الْحُسَيْن البصريان، وَعبد الْجَبَّار، وَنسبه ابْن برهَان للمعظم: يجوز نسخ ذَلِك.
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
يخرج عَلَيْهِ نسخ المحاسبة بِمَا فِي النُّفُوس فِي قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 284] كَقَوْل جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ فِي " صَحِيح مُسلم " عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر.
قَالَ الْخطابِيّ: النّسخ يجْرِي فِيمَا أخبر الله أَنه يَفْعَله؛ لِأَنَّهُ يجوز تَعْلِيقه على شَرط بِخِلَاف إخْبَاره عَمَّا لَا يَفْعَله؛ إِذْ لَا يجوز دُخُول الشَّرْط فِيهِ. قَالَ: وعَلى هَذَا تَأَول ابْن عمر النّسخ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] فَإِنَّهُ نسخهَا بعد ذَلِك بِرَفْع حَدِيث النَّفس. انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْصِيل بَين الْخَبَر عَن الْمَاضِي فَيمْتَنع نسخه؛ لِأَنَّهُ يكون تَكْذِيبًا، دون الْمُسْتَقْبل؛ لجريانه مجْرى الْأَمر وَالنَّهْي، فَيجوز أَن يرفع بِهِ، وَهَذَا القَوْل بِاخْتِيَار ابْن عقيل، والخطابي، وَابْن الْقطَّان،
وسليم الرَّازِيّ، والبيضاوي فِي " مُخْتَصره ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ ابْن عقيل إِن تعلق بمستقبل جَازَ فِيهِ نوع احْتِمَال كعفو فِي وَعِيد، وَصفه وَشرط.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي مَوضِع آخر: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا كَمَا تقدم، وَإِلَّا جَازَ، أَي: وَإِن تغير جَازَ عِنْد عبد الْجَبَّار وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، والآمدي؛ لتكرر مَدْلُوله كَمَا فِي الْأَمر وكالخبر بِمَعْنى الْأَمر.
وَمنعه ابْن الباقلاني، والجبائية، وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر الْمَاضِي. انْتهى.
تَنْبِيه: هَذَا التَّفْصِيل مَبْنِيّ على أَن الْكَذِب لَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، بل فِي الْمَاضِي، وَهُوَ قَول مَشْهُور تقدم ذكر، وَذكره مُقَابِله فِي أَحْكَام الْخَبَر فِي أَوَائِل أَحْكَام الحَدِيث، وَأَن مَنْصُوص أَحْمد أَنه يكون فِي الْمُسْتَقْبل
كالماضي على مَا سبق تحريره.
وَفِي نسخ الْخَبَر قَول رَابِع بالتفصيل بَين أَن يكون الْخَبَر الأول مُعَلّقا بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء فَيجوز نسخه، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مقلة فِي كتاب " الْبُرْهَان "، قَالَ: كَمَا وعد قوم يُونُس بِالْعَذَابِ إِن لم يتوبوا، فَلَمَّا تَابُوا كشف عَنْهُم.
وَقَول خَامِس، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: يجوز مُطلقًا إِذا كَانَ مِمَّا يتَكَرَّر، وَالْخَبَر عَام فيتبين بالناسخ إِخْرَاج مَا لم يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ.
قَوْله: {وَإِن كَانَ الْخَبَر عَن حكم جَازَ قطعا} .
مَحل الْخلاف الْمُتَقَدّم فِي غير الْخَبَر عَن الحكم، نَحْو: هَذَا الْفِعْل جَائِز، أَو حرَام، فَهَذَا يجوز نسخه بِلَا خلاف؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إنْشَاء، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره.
قَوْله: {وَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز، خلافًا للآمدي، وَمَال إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز خلافًا للآمدي.
وَفِي " التَّمْهِيد ": إِفَادَة الدَّوَام فيهمَا لَا يمْنَع من دَلِيل أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره كالعموم، ثمَّ مُطلق الْخَبَر كالمقيد بالتأبيد فَالْأَمْر مثله ثمَّ مُطلق الْأَمر ينْسَخ فَكَذَا مقيده، وَإِن كَانَ الْخَبَر المُرَاد بِهِ إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء فَهُوَ الصُّورَة الرَّابِعَة الَّتِي تقدّمت، وَإِن كَانَ المُرَاد بتقييده الْخَبَر وَهُوَ على مَا بِهِ فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى، وتابعت فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَتَبعهُ من بعده: يجوز أَن يرد الْأَمر وَالنَّهْي دَائِما إِلَى غير غَايَة فَيَقُول: صلوا مَا بَقِيتُمْ أبدا، وصوموا رَمَضَان مَا حييتُمْ أَيْضا، فَيَقْتَضِي الدَّوَام مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء والأشاعرة من الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي أَوَاخِر كِتَابه.
قَالَ الْمجد: ومنعت الْمُعْتَزلَة مِنْهُ، وَقَالُوا: مَتى ورد اللَّفْظ بذلك لم يقتض الدَّوَام، وَإِنَّمَا هُوَ حث على التَّمَسُّك بِالْفِعْلِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وحرف الْمَسْأَلَة أَنهم لَا يمْنَعُونَ الدَّوَام مُطلقًا، وَيَقُولُونَ: لَا بُد من دَار ثَوَاب غير دَار التَّكْلِيف وجوبا على الله فَيكون قَوْله: أبدا مجَازًا، وَمُوجب قَوْلهم: أَن الْمَلَائِكَة غير مكلفين، وَقد اسْتدلَّ ابْن عقيل باستعباد الْمَلَائِكَة وإبليس. انْتهى.