الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {بَاب النّسخ} )
{لُغَة: الرّفْع والإزالة، نسخت الشَّمْس الظل، وَالنَّقْل، نسخت الْكتاب} . الِاسْتِدْلَال بِالْكتاب وَالسّنة مُتَوَقف على معرفَة بَقَاء الحكم أَو ارتفاعه، وَهُوَ بَيَان النّسخ وَأَحْكَامه.
والنسخ لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع. فالنسخ فِي اللُّغَة يُطلق على الرّفْع، والإزالة: كنسخت الشَّمْس الظل، أَي: رفعته وأزالته، وَنسخت الرّيح الْأَثر كَذَلِك.
وَيُطلق - أَيْضا - على النَّقْل، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: النَّقْل مَعَ عدم بَقَاء الأول كالمناسخات فِي الْمَوَارِيث، فَإِنَّهَا تنْتَقل من قوم إِلَى قوم مَعَ بَقَاء الْمَوَارِيث فِي نَفسهَا، وَمِنْه قَول بعض المبتدعة بالتناسخ فِي الْأَرْوَاح، يَزْعمُونَ أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل من هيكل إِلَى هيكل.
وَالنَّوْع الثَّانِي: النَّقْل مَعَ بَقَاء الأول فَيكون المُرَاد مماثلته، كنسخ الْكتاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] .
قد علمت أَن اللُّغَة وَردت بالإزالة وَالرَّفْع وبالنقل، فَذهب أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر أَنه حَقِيقَة فِي الأول، أَي: فِي الرّفْع والإزالة، مجَاز فِي الثَّانِي وَهُوَ النَّقْل، قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْمُخْتَار.
وَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى عَكسه، وَهُوَ: أَنه حَقِيقَة فِي النَّقْل، مجَاز فِي الرّفْع والإزالة، لاستلزامة الْإِزَالَة.
وَقَالَ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا: مُشْتَرك بَين الْإِزَالَة وَالنَّقْل.
وَقيل: الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الرّفْع، فَيكون متواطئا، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير فِي " شرح الْبُرْهَان ".
وَلَكِن لَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي نَحْو: نسخت الْكتاب؛ إِذْ لَا رفع فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي شَرحه فِي نصْرَة كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي أَنه حَقِيقَة فِي الرّفْع مجَاز فِي الْإِزَالَة: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك؛ لِأَن التَّعَارُض فِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة قد وَقع بَين الِاشْتِرَاك على القَوْل الأول، وَبَين الْمجَاز على الْقَوْلَيْنِ الآخرين، فالمجاز أولى من الِاشْتِرَاك فَيبقى الْأَمر دائرا بَين الْقَوْلَيْنِ الآخرين، وَهُوَ أَن النّسخ حَقِيقَة فِي الرّفْع، مجَاز فِي النَّقْل، أَو بِالْعَكْسِ.
وَالْأول أظهر، وَوَجهه: أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَيكون أولى بِحَقِيقَة النّسخ، أما أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَلِأَن الرّفْع يسْتَلْزم النَّقْل، وَالنَّقْل لَا يسْتَلْزم الرّفْع، فَيكون أخص فَيكون أولى بِحَقِيقَة اللَّفْظ؛ لِأَن الْأَخَص أبين، وأدل، وأوضح، فَيكون بِالْحَقِيقَةِ أولى.
ثمَّ ردد القَوْل فِي ذَلِك، وَذكر طَريقَة أُخْرَى فِي التقوية.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ثمَّ قيل: الْخلف لَفْظِي، وَقيل: معنوي.
تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمدَار على الْحَقَائِق الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة، وَأَيْضًا فَهُوَ يبْنى على أَن الاصطلاحي نقل من اللُّغَوِيَّة كَمَا نقلت الصَّلَاة إِلَى الشَّرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْمُتَكَلِّمين، لَكِن الْأَظْهر أَنه كنقل الدَّابَّة، فَنقل من الْأَعَمّ إِلَى الْأَخَص. انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} ، أَي: معنى النّسخ فِي الشَّرْع، وَاخْتلف فِيهِ: هَل هُوَ رفع، أَو بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم؟ على قَوْلَيْنِ:
ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه رفع الحكم، فَهُوَ:{رفع حكم شَرْعِي بِدَلِيل شَرْعِي متراخ} . ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: بقول الشَّارِع أَو فعله، يخرج الْمُبَاح بِحكم الأَصْل عِنْد الْقَائِل بِهِ فَإِن ذَلِك بِحكم عَقْلِي، لَا شَرْعِي، فَإِذا أخرج فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد فَلَا يُسمى نسخا، وَالرَّفْع لعدم الْفَهم، وَبِنَحْوِ: صل إِلَى آخر الشَّهْر.
وَالْمرَاد بالحكم مَا تعلق بالمكلف بعد وجوده أَهلا، فالتكليف الْمَشْرُوط بِالْعقلِ عدم عِنْد عَدمه فَلَا يرد: الحكم قديم لَا يرْتَفع وَلَا ينْتَقض عَكسه
بتخصيص مُتَأَخّر؛ لِأَنَّهُ بَيَان، لَا رفع عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم خلافًا لبَعْضهِم، وَهَذَا معنى حد أبي الْخطاب.
{وَزَاد: رفع مثل الحكم} ، لِئَلَّا يرد البداء، وَهُوَ ظُهُور مَا لم يكن؛ لِأَنَّهُ رفع نفس الحكم.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا.
وأبطله الْآمِدِيّ بِأَن إِزَالَة الْمثل قبل وجوده، وَبعد عَدمه محَال، وَكَذَا مَعَه؛ لِأَنَّهَا إعدام. قَالَ: وَفِيه نظر، لَكِن يلْزم منع نسخ أَمر مُقَيّد بِمرَّة قبل فعله.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَزَاد ابْن الْحَاجِب: مُتَأَخّر، ليخرج مَا لَو قَالَ: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر، وَنَحْوه المخصصات الْمُتَّصِلَة كلهَا فَإِنَّهَا إِخْرَاج بِدَلِيل شَرْعِي مُقَارن، لَا مُتَأَخّر.
قَالَ: وَإِنَّمَا لم أذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف؛ لِأَن الرّفْع يَسْتَدْعِي ثُبُوت حكم، وَالْحكم لم يثبت بِأول الْكَلَام؛ إِذْ الْكَلَام بِآخِرهِ، فَكيف يرفع؟
وَأَيْضًا: يسْتَغْنى عَن قيد الْمُتَأَخر بقولنَا: بخطاب شَرْعِي فَإِنَّهُ إِذا لم يتَأَخَّر فَكيف يكون رَافعا.
وَأَيْضًا فالمخصصات الْمُتَّصِلَة مُتَأَخِّرَة لفظا فَلَا يُخرجهَا قَوْله: (مُتَأَخّر) ؛ وَلِهَذَا أبدل بَعضهم (مُتَأَخّر) بمتراخ ليخرج المخصصات الْمُتَّصِلَة، وَالْكل لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَمِمَّا يخرج بقولنَا بخطاب شَرْعِي من سَقَطت رِجْلَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: رفع بِدَلِيل شَرْعِي، بل بِالْعقلِ، وَمَا وَقع للرازي فِي " الْمَحْصُول " من جعل ذَلِك نسخا فضعيف. انْتهى.
تَنْبِيه: قَوْلنَا: {بِدَلِيل شَرْعِي} أولى من قَول من قَالَ: بخطاب شَرْعِي لدُخُول الْفِعْل فِي الأول، لَا الثَّانِي؛ إِذْ لَا يُقَال: للْفِعْل خطاب.
وَعبر الْبَيْضَاوِيّ: بطرِيق شَرْعِي.
وَهُوَ حسن، فقد جعل الْأَئِمَّة من النّسخ بِالْفِعْلِ، نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة، وَلم يتَوَضَّأ صلى الله عليه وسلم َ -.
{و} قَالَ {ابْن حمدَان} فِي " مقنعه ": {منع اسْتِمْرَار حكم خطاب شَرْعِي بخطاب شَرْعِي متراخ عَنهُ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاد الْآمِدِيّ بحده، وَكَذَا فِي " الرَّوْضَة ": رفع حكم ثَابت بخطاب متراخ عَنهُ.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَمعنى الرّفْع إِزَالَة الشَّيْء على وَجه لولاه لبقي ثَابتا، على مِثَال رفع حكم الْإِجَارَة بِالْفَسْخِ، فَإِن ذَلِك يُفَارق زَوَال حكمهَا بِانْقِضَاء مدَّتهَا.
قَالَ: وَقَيَّدنَا الْحَد بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم؛ لِأَن ابْتِدَاء الْعِبَادَات فِي الشَّرْع مزيل لحكم الْعقل من بَرَاءَة الذِّمَّة، وَلَيْسَ بنسخ، وقيدناه بِالْخِطَابِ الثَّانِي؛ لِأَن زَوَال الحكم بِالْمَوْتِ وَالْجُنُون لَيْسَ بنسخ، وَقَوْلنَا: مَعَ تراخيه عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُتَّصِلا بِهِ كَانَ بَيَانا وإتماما لِمَعْنى الْكَلَام وتقديرا لَهُ بِمدَّة وَشرط. انْتهى.
{و} قَالَ: {القَاضِي: إِخْرَاج مَا لم يرد بِاللَّفْظِ الْعَام فِي الْأَزْمَان مَعَ تراخيه عَنهُ} .