الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومراوغات جدلية، وَالشَّرْع خَاطب النَّاس بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأمرهمْ [بهَا] لإِثْبَات مَقْصُود التَّوْحِيد، وَحصل الْفَهم لذَلِك مِنْهُم من غير احْتِيَاج لأمر زَائِد، وَلَو كَانَ وضع اللَّفْظ لَا يَقْتَضِي ذَلِك لَكَانَ أهم الْمُهِمَّات أَن يعلمنَا الشَّارِع مَا يَقْتَضِيهِ بِالْوَضْعِ من غير احْتِيَاج لأمر آخر فَإِن ذَلِك الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الْإِسْلَام. انْتهى.
وَمن أَدِلَّة الْجُمْهُور أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} [النبأ: 30] ، وَهُوَ ظَاهر.
وَأما أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة، فَمن أعظمها أَنه لَو كَانَ كَذَلِك للَزِمَ فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم َ -: "
لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " أَن من تطهر يكون مُصَليا، أَو تصح صلَاته، وَإِن فقد بَقِيَّة الشُّرُوط.
وَجَوَابه: أَن الْمُسْتَثْنى مُطلق يصدق بِصُورَة مَا لَو تَوَضَّأ، وَصلى فَيحصل الْإِثْبَات، لَا أَنه عَام حَتَّى يكون كل متطهر مُصَليا.
وَأَيْضًا فَهُوَ اسْتثِْنَاء شَرط، أَي: لَا صَلَاة إِلَّا
بِشَرْط الطَّهَارَة، وَمَعْلُوم أَن وجود الشَّرْط [لَا يلْزم مِنْهُ وجود الْمَشْرُوط، وَأَيْضًا فالمقصود الْمُبَالغَة فِي
هَذَا الشَّرْط] دون سَائِر الشُّرُوط؛ لِأَنَّهُ آكِد فَكَأَنَّهُ لَا شَرط غَيره لَا أَن الْمَقْصُود نفي جَمِيع الصِّفَات.
وَأَيْضًا فقد قيل: الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، وَضَعفه ابْن الْحَاجِب على أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَا يعرف، إِنَّمَا الْمَعْرُوف:" لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور " أخرجه مُسلم، لَكِن فِي ابْن ماجة:" لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، وَلَو مثلُوا بِحَدِيث:" لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب " الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لَكَانَ أَجود، وَالله أعلم.
فَائِدَة: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة مُوَافق لقَوْل نحاة الْكُوفَة، وَمَا قَالَه الْجُمْهُور مُوَافق لقَوْل سِيبَوَيْهٍ والبصريين، وَمحل الْخلاف فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ فِيهِ إِخْرَاج، أما الْمُنْقَطع فَالظَّاهِر أَن مَا بعد (إِلَّا) فِيهِ مَحْكُوم
عَلَيْهِ بضد الحكم السَّابِق فَإِن مساقه هُوَ الحكم بذلك فنحو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] المُرَاد أَن لَهُم بِهِ اتِّبَاع الظَّن لَا الْعلم، وَإِن لم يكن الظَّن دَاخِلا فِي الْعلم، وَقس عَلَيْهِ.
لَكِن هَل يجْرِي الْخلاف فِي المفرغ؟
قيل: الظَّاهِر، لَا، وَأَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ إِثْبَات قطعا؛ لِأَن قَوْلك: مَا قَامَ إِلَّا زيد، لَيْسَ مَعَك شَيْء يثبت لَهُ الْقيام فَيكون فَاعِلا إِلَّا زيد فَيكون مُتَعَيّنا للإثبات بِالضَّرُورَةِ بِخِلَاف قَوْلك: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد.
وَحكى الْقَرَافِيّ فِي " العقد المنظوم " عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم أجروا الْخلاف فِي المفرغ أَيْضا، قَالَ: ويلزمهم أَن يعربوا زيدا فِيمَا قَامَ إِلَّا زيد بَدَلا، لَا فَاعِلا وَيكون الْفَاعِل مضمرا، أَي: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد، لَكِن حذف الْفَاعِل مُمْتَنع عِنْد النُّحَاة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن قلت: لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ من معنى مَحْذُوف يسْتَثْنى مِنْهُ وَإِن لم يقدر لَفظه على الْمُرَجح، فَالْقَوْل بجريان الْخلاف فِيهِ غير بعيد. انْتهى.
تَنْبِيه: إِذا علم الْأَمْرَانِ: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي ترَتّب عَلَيْهَا تعدد الِاسْتِثْنَاء، نَحْو: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة، إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة، إِلَّا سِتَّة، إِلَّا خَمْسَة، إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا اثْنَيْنِ، إِلَّا وَاحِدًا، وَقد بَينا كَيْفيَّة الْعَمَل فِي ذَلِك فِي " الْإِنْصَاف " فِي الْإِقْرَار.
وَاعْلَم أَن للمسألة أحوالا:
الأولى: مَا ذكرنَا من الْمِثَال، ولاستخراج الحكم من ذَلِك طرق للنحاة وَغَيرهم:
إِحْدَاهَا: طَريقَة الْإِخْرَاج وجبر الْبَاقِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَهَكَذَا إِلَى آخِره، فَإِذا قَالَ: لَهُ عشرَة إِلَّا تِسْعَة
…
إِلَى آخِره، فَنَقُول: أخرج تِسْعَة بِالِاسْتِثْنَاءِ الأول، جبر مَا بَقِي - وَهُوَ وَاحِد - بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَة - فَصَارَ تِسْعَة، ثمَّ خرج بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّالِث سَبْعَة، بَقِي اثْنَان فجبره بالرابع - وَهُوَ سِتَّة - فَصَارَ ثَمَانِيَة، ثمَّ خرج بالخامس خَمْسَة فَبَقيَ ثَلَاثَة، فجبر بالسادس - وَهُوَ أَرْبَعَة - فَصَارَ سَبْعَة، ثمَّ خرج بالسابع ثَلَاثَة فَبَقيَ أَرْبَعَة فجبر بالثامن - وَهُوَ اثْنَان - فَصَارَ الْبَاقِي سِتَّة، وَأخرج مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ التَّاسِع وَاحِد فَصَارَ الْمقر بِهِ خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: أَن يحط الآخر مِمَّا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى الأول فتحط وَاحِدًا من اثْنَيْنِ يبْقى وَاحِد، تحطه من ثَلَاثَة يبْقى اثْنَان تحطهما من أَرْبَعَة يبْقى اثْنَان تحطهما من خَمْسَة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سِتَّة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سَبْعَة يبْقى أَرْبَعَة، تحطها من ثَمَانِيَة يبْقى أَرْبَعَة تحطها من تِسْعَة، يبْقى خَمْسَة، تحطها من عشرَة يبْقى الْمقر بِهِ خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة: أَن تجْعَل كل وتر من الِاسْتِثْنَاء خَارِجا، وكل شفع مَعَ الأَصْل دَاخِلا فِي الحكم فَمَا اجْتمع فَهُوَ الْحَاصِل فَيسْقط مَا اجْتمع من الْخَارِج مِمَّا اجْتمع من الدَّاخِل فَهُوَ الْجَواب فالعشرة وَالثَّمَانِيَة والستة وَالْأَرْبَعَة، والاثنان ثَلَاثُونَ هُوَ الْمخْرج مِنْهَا، والتسعة، والسبعة، والخمسة، وَالثَّلَاثَة، وَالْوَاحد خَمْسَة، وَعِشْرُونَ هِيَ المخرجة يبْقى خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الرَّابِعَة: إِن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا إِن كَانَ شفعا كالعشرة فِي مثالنا، فَخذ لكل اسْتثِْنَاء من الأوتار وَاحِدًا، واجمعه، وأسقطه مِنْهُ فالباقي الْجَواب، فعدد الاستثناءات الأوتار خَمْسَة تسقطها من الْعشْرَة يبْقى خَمْسَة، وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا وترا كَقَوْلِه: لَهُ عَليّ أحد عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا
تِسْعَة
…
إِلَى آخِره، فَخذ عدد الاستثناءات الأشفاع وَهُوَ خَمْسَة، وأسقطها من الْأَحَد عشرَة، وَالْبَاقِي سِتَّة وَهُوَ الْجَواب، لَكِن هَذِه الطَّرِيقَة لَا تتأتى إِلَّا فِي استثناءات مُتَوَالِيَة بِحَيْثُ لَا يكون بَين كل وَاحِد من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمستثنى شَيْء، كَمَا فِي مثالنا فَتَأَمّله، وَلَهُم طرق غير ذَلِك يطول الْكتاب بذكرها.
قَوْله: {وَاسْتثنى الْقَرَافِيّ الشَّرْط} ، فَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": قَول الْعلمَاء الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات لَيْسَ على إِطْلَاقه؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يَقع فِي الْأَحْكَام نَحْو: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمن الْمَوَانِع نَحْو: لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ، وَمن الشُّرُوط وَنَحْو:{لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور} .
فالاستثناء من الشُّرُوط مُسْتَثْنى من كَلَام الْعلمَاء فَإِنَّهُ لَا يلْزم من الْقَضَاء بِالنَّفْيِ لأجل عدم الشَّرْط أَن يقْضِي بالوجود لأجل وجود الشَّرْط لما علم من أَن الشَّرْط لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود وَلَا الْعَدَم، فَقَوْلهم: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات يخْتَص بِمَا عدا الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ {لم يقل أحد} من الْعلمَاء {إِنَّه يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط} .
وبهذه الْقَاعِدَة يحصل الْجَواب عَن شُبْهَة الْحَنَفِيَّة فَإِن النُّصُوص الَّتِي ألزمونا بهَا كلهَا من بَاب الشُّرُوط، وَهِي لَيست من صور النزاع، فَلَا تلزمنا. انْتهى.
وَقد تقدم من بحث الْمَسْأَلَة الْجَواب على ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة.