الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب
ونسبهم وبدء شأنهم
قال العبد الفقير، المعترف بالتقصير، واللسان القصير، مؤلف هذا التاريخ وجامعه، غفر الله له ولوالديه ولقارئه وسامعه: حدثنى الجناب العالى المرحوم ناصر الدين محمد الملقب بالملك الكامل، من ولد الملك الصالح إسماعيل المعروف بأبى الجيش، صاحب الشام، رحمه الله تعالى، وسائر ملوك المسلمين، مع كافة أمة محمد أجمعين. وكان الحديث فى سنة عشرة وسبع مائة بمدينة دمشق المحروسة، والملك الكامل المذكور يومئذ بها أمير مائة فارس مقدم ألف. وكان حصل بينى وبينه من الصحبة ما كان يطلعنى على كثير من أسراره. وكان الملك الكامل المذكور ملك النفس والكرم والسماحة، فاضل، راو من كل فن حسن. وكان مع ذلك كثير المزح والخلاعة، طيب المحاضرة، لذيذ المفاكهة، لا يمل حديثه. لم يزل يروى المضاحكات والنوادر الحسنة، كثير التنديب على نفسه وعلى أقاربه من أولاد الملوك من بنى أيوب، حيّهم وميّتهم. وسيأتى طرف من ذكره وخلاعته وحكاياته فى تاريخه، إن شاء الله تعالى.
سألت منه-رحمه الله-ذات يوم عن جدهم أيوب، ابن من؟. فقال: أيوب بن شاذى ابن مروان، أكراد من جبل نهاوند. قال: وكان مروان فى جيش السلجوقية، وكان مشهورا بينهم بقوة وشجاعة، حتى قيل إنه كان يركض الفرس ويدعه فى قوة جريه، فيطبق عليه وركيه مع ساقيه، فيقف الجواد من ساعته، ولا يعود يتنفس.
وكان يمسك ذنب الفرس ويقول للراكب: «حرّك فرسك» فلا ينقل خطوة.
وكان يركب ولده شاذى أعفى فرس عنده، ويأمره أن يحرّك عليه، ويعارضه فى
الميدان، والفرس فى قوة جريه، فيصدمه بصدره فيوقفه. وكان ستين رطلا بالبغدادى رمحه. وكان إذا تقابلت الصفوف فى وقت المصافات يبرز إلى الميدان ويطلب المبارزة، فلا يجسر أحد أن يخرج إليه. وله أحوال كثيرة لا يمكنى ذكرها، تخامر العقول لا تصدق.
يقول هكذا الملك الكامل. ثم إن ولده شاذى كان يقاربه فى بعض شجاعته، فصار فى جملة جيش أتابك زنكى أبو نور الدين محمود، وتقرّب بشجاعته حتى صار أمير علم عند أتابك زنكى، وحظى عنده، وتربى أيوب ولده مع محمود بن أتابك.
قال ابن واصل صاحب تاريخ حماة فى نسب آل أيوب: لا خلاف فى أن الملك الأفضل نجم الدين أيوب، والد الملوك الأيوبية، وأخاه الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، هما ابنا شاذى بن مروان. ثم قيل إن مروان هو ابن محمد بن يعقوب.
واختلف الناس فى أصلهم، فذكر عز الدين بن الأثير أن أصلهم من الأكراد الروادية وهم فخذ الهذبانية. وأنكر ذلك جماعة من بنى أيوب، النسبة إلى الأكراد، وقالوا إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد، وتزوجنا منهم. وادعى بعضهم النسب إلى بنى أمية. وكان الملك إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب -صاحب اليمن بعد أبيه [سيف الإسلام ظهير الدين]-يدعى ذلك، ولقب نفسه المعز لدين الله، وخطب لنفسه بالخلافة باليمن، وذلك فى أيام عمه الملك العادل [سيف الدين أبى بكر] بن أيوب. فلما بلغه ذلك صعب عليه، وقال: كذب والله، ما نحن من بنى أمية أصلا.
والذين ادعوا هذا النسب قالوا: أيوب بن شاذى، بن مروان، بن الحكم، ابن عبد الرحمن، بن محمد، بن عبد الله، بن محمد، [بن محمد]، بن عبد الرحمن،
ابن الحكم، بن هشام، [بن عبد الرحمن الداخل، بن معاوية، بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبى العاص، بن أمية، بن عبد شمس، ابن عبد مناف. وفى عبد مناف يجتمع نسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم ونسب بنى أمية. فهذا قول من جعل نسبهم فى بنى أمية.
وجماعة آخرون أثبتوا نسبهم فى بنى مرة بن عوف. وممن أثبت نسبهم فى بنى مرة الحسن بن غريب الحرسى، فإنه أوصل نسبهم إلى على بن أحمد المرّى، ممدوح المتنبى حين يقول:
شرق الجو بالغبار إذا سا
…
ر على بن أحمد القمقام
وأحضر هذا النسب إلى الملك المعظم صاحب دمشق فسمع النسب عليه، وأسمعه ولده الناصر داود فى سنة تسع عشرة وستمائة.
وكان فى أيوب تغفّل الأكراد وبلههم. وكان [نور الدين] محمود يحبه لا يكاد يفارقه، ويستظرف حديثه. وكان دينا خيرا صادقا. وكان محمود من صغره دينا فاضلا ورعا، يحب الفقراء ويبر المساكين. وكان لا يرى مجالسا إلا فقيرا. وله دار برسم الورّاد من الفقراء المتجردين. وكان جميع ذلك فى تكريت، قبل تمليك أتابك الشام. فلما كان نور الدين ملك الشام مع الشرق، جعل أسد الدين شير كوه -وهو أخو أيوب-أميرا وحاجبا على الأكراد من جيشه، وسلم لأيوب قصره، فكان صاحب الإذن عليه.
قلت: هكذا يقول الملك الكامل-رحمه الله-ولعله كان كما قيل برددارا لنور الدين، فحسّن الملك الكامل العبارة فى ذلك. قال: وكان نور الدين-رحمه الله له نصيب وافر من الفقراء جدا.
وكان قد صار لأيوب عدة أولاد-يوسف وأبوبكر-والباقى تأتى أسماؤهم فى
أماكنها. وكان يوسف يعوض لأبيه بباب القصر إذا عرض له عارض. وكان للملك العادل نور الدين ولده إسماعيل. قال أبو المظفر: كان لنور الدين محمود، هذا الولد إسماعيل، ولد له بتكريت، وتوفى بدمشق فى حياة والده. وولده الذى ملك بعده، ولد بدمشق، وسماه باسم أخيه إسماعيل، ولقبه الملك الصالح. وكان فيه لعب واستهتار بالفقراء، وينكر على أبيه خفية، إذا خلا بين ندمائه وأصحابه. وكان يوسف بن أيوب من أكبر الخصيصين بمنادمة إسماعيل الملك الصالح، فكان يقول له:
«يا خوند اشتهى منك لا تتعرض لهذا القول، فالسلطان أخبر بأموره منا» . قال:
وجاءت ليلة النصف من شعبان، وكان الملك العادل [نور الدين محمود] يحتفل بمواسم المسلمين، ويفعل فى كل موسم ما ينبغى فيه. فخرج إلى باب القصر بعد عشاء الآخرة، فطلب أيوب فلم يجده، وكان قد حصل له وجع فى بطنه أعاقه تلك الليلة، ووجد يوسف مكانه، فقال:«يا يوسف خذ إسماعيل-يعنى ولده-واطلع أنت وهو، ولا يكن معكما ثالث، إلى مغارة الجوع وباتا على بابها، وأحييا قيام هذه الليلة العظيمة القدر. فإذا كان وقت الفجر الأول اصنتا، ومهما سمعتاه احفظاه وعرفانى به» .
فطلعنا وقد أخذنى لكلام السلطان هيبة عظيمة أرعدتنى. يقول يوسف: فلما صرنا على باب المغارة المعروفة بمغارة الجوع بجبل الصالحية، قال لى الملك الصالح «يا يوسف! افعل ما أمرك به السلطان من إحياء الليلة، وأما أنا فإنى بانام» ثم إنه انضجع على ما فرش له ونام. قال يوسف: فقمت فأحييت تلك الليلة، وقد داخلنى لكلام السلطان وجل عظيم. فلما كان أول الفجر عند شعشعة العمود، سمعت حس هفيف كأجنحة طائر كبير، وأسمع من تلقائه قائلا يقول:«الناصر للصليب كاسر، وللفرنج خاسر، وللقدس طاهر. الظاهر للشام طاهر، وللكفر قاهر، قاتل كل كافر عاهر. الناصر بالشرق ظافر، يطؤها بالخف والحافر، بعد ثلاث تواتر» .
قال الملك الكامل-رحمه الله-فكان من السلطان صلاح الدين رحمه الله
-وهو الملك الناصر-أن فتح البلاد من الفرنج، وطهر بيت المقدس منهم، وكان من أمره ما كان. ثم إن صلاح الدين الملك الناصر لقب ولده بالظاهر، طمعا أن يكون ذلك الظاهر، فأبى الله إلا حيث يشاء، فكان بيبرس البندقدارى صاحب ذلك الرمز المذكور. ثم لقب داود بالناصر ويوسف بالناصر، طمعا أن يكونا ذلك الناصر المذكور، فأبى الله إلا أن يكون حيث يشاء، وهو مولانا وسيدنا ومالك رقنا، السلطان الأعظم الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاون الألفى الصالحى. وذلك أن بنى أيوب تحيروا فى قوله:«بعد ثلاث تواتر» ما هن؟. فلما تردد مولانا السلطان-عز نصره-إلى الملك ثلاث مرار، علم أنه صاحب ذلك الرمز المقدم ذكره.
وأما منام أيوب فى حال صباه، وهو يوم ذاك بتكريت، فإنه من غريب ما يسمع، وذلك أنه رأى كأنه قعد للبول، فعادت إراقته تطلع من إحليله كالفوارة، إلى أن تعلقت بالسحاب، ثم انعقدت سحابة وكأنها على بيت المقدس، ثم مطرت تلك السحابة مطرا عاما حتى غسلت القدس، مع سائر تلك الأرض. ثم ظهر فى تلك السحابة قمر مع نجوم كثيرة، حتى أضاءت الأرض كلها من نوره. ثم نبتت تلك الأراضى أنواع الحشائش. وكان فى تلك الأراضى أبقار ترعى، عدتهم دون المائة.
ثم ظهرت من جهة البحر المالح خنازير حتى ملأت تلك الأرض. ثم عادوا يقتلون تلك الأبقار إلا بقرة واحدة، هربت منهم إلى ناحية الشام. ثم ظهرت من جهة مصر أسود كالبخاتى، فقتلوا جميع تلك الخنازير، حتى لم يبق منهم إلا من هرب وقطع البحر. ثم عاد ذلك الحشيش، وحسن نضارته.
هذا ما نقله الملك الكامل-رحمه الله-قال: وكان بتكريت فى ذلك الوقت إنسان يعرف بابن المرزبان يعبّر الرؤيا، موصوف بحذاقته، فقص عليه أيوب تلك الرؤيا،
فتعجب لذلك، وقال: ما يجب أن تكون هذه الرؤيا إلا لملك، ولكن الله يعطى ملكه من يشاء. ثم قال:«سيكون من نسلك أيها الرجل ملوك بعدد تلك النجوم، ويكون منهم ملك عظيم يظهر على الفرنج، ويطهر بيت المقدس من أرجاسهم وأنجاسهم، وتشرق الدنيا بملكه، ثم يكون مدة تمليك تلك الملوك بعدة تلك الأبقار سنين. ثم يخرج عليهم الفرنج-وهم الخنازير-فيظهرون عليهم، حتى يخرج من جهة مصر جيش كالسباع، فيكون هلاك الخنازير على أيديهم. فهذا تأويل رؤياك، والله أعلم» .
قلت: وإنما قدمت هذه المقدمة لفوائد فيها. أحدها أن يعلم أصول بنى أيوب على الصحيح. والأخرى لما فيها من البشارة لكافة المسلمين بما هو مخبأ فى الغيب من ملك مولانا السلطان الملك الناصر-عز نصره-لبلاد الشرق إن شاء الله تعالى.
والثالثة لغروبة هذا المنام الذى ما أخرم دقة. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ولنعود إلى سياقة التاريخ بعون الله وحسن توفيقه. وذلك لما انتهى القول من العبد فى آخر الجزء السادس إلى آخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وذكرنا جميع ما وصلت إليه القدرة جهد الطاقة وحد الاستطاعة، ما كان فى جميع تلك السنين الماضية من أخبار الأمم الخالية، والرمم البالية. فلنستفتح الآن هذا الجزء بذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، موفقا لذلك، إن شاء الله تعالى.