الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تسألونى إلا عن أواخرهم
…
فأول الركب ما عندى له خبر
وكان الناصر لدين الله أديبا فاضلا شاعرا. ذكر أنه اعتقل بعض كتّابه فكتب إليه يقول:
ألقنى فى لظى وإن غيّرتنى
…
فتيقّن أن لست بالياقوت
عرف النسج كل من حاك لكن
…
نسج داود ليس كالعنكبوت
قال، فأجابه الخليفة يقول:
نسج داود لم يفد صاحب الغا
…
ر وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند فى لهب النا
…
ر مزيل فضيلة الياقوت
وهذا جواب فائق، وشعر مفلق.
ذكر خلافة الإمام الظاهر بأمر الله بن الإمام
الناصر لدين الله وسيرته
هو أبو نصر، عدة الدنيا والدين، محمد، الظاهر بأمر الله بن الإمام الناصر لدين الله أحمد، أمير المؤمنين، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد.
بويع يوم عيد الفطر، وجلس للخلافة ثانيه، وعليه ثياب البياض وطرحة، وعلى كتفه البردة النبوية، وهو جالس فى شباك القبة، والوزير قائم بين يديه، وكذلك أستادار، وهما يأخذان البيعة على الناس، ونسخة المبايعة؛ يقول:«بايع سيدنا ومولانا المفترض الطاعة على جميع الأنام أبا نصر محمد الظاهر بأمر الله على كتاب الله وسنة نبيه ورسوله-صلى الله عليه وسلم-واجتهاد أمير المؤمنين، وأن لا خليفة سواه فى مشارق الأرض ومغاربها» .
وكان الوزير والأستادار وأرباب الدولة قد توجهوا إلى بيت النوبة نهار العيد، وجلسوا للعزاء وقراءة القرآن. وتكلم محيى الدين بن الجوزى. ثم توجهوا جميعا إلى
جامع القصر، وصلوا صلاة العيد. ثم خطب بعد الصلاة، ودعى للإمام الظاهر.
ولما كان نهار الثلاثاء، دخل من تخلف عن البيعة، وتكلم محيى الدين بن الجوزى، ودعا للإمام الظاهر. ثم أذن للشعراء فى إنشاد المراثى التى صنعوها فى الإمام الناصر، والتهانى بالإمام الظاهر. ولبس كافة أرباب الدولة ثياب العزاء، وكذلك الزعماء والمماليك والولاة. ورفع القضاة والمدرسون ومشايخ الرباطات الطيالس والطرحات. ثم قرئ على الناس فى الجامع توقيعا نسخته:
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} «اعلموا أيها الناس-رحمكم الله-أنه حيث توفى الله تعالى الإمام السعيد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى فسيح جناته، وأفاض عليه ملابس رحمته ورضوانه، بعد أن جاهد فى الله حق جهاده، وأدى الأمانة فى بلاده وعباده، استخلف عليكم أشرف مستخلف، وأبرّ خليفة وأرأف، فنصح الأمة فى اختياره، وقام فى استخلافه بواجب شريف نظره واجتهاده. وهو سيدنا ومولانا الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، ولد سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام، الناصر لدين الله أمير المؤمنين، لا زالت أوامره مطاعة فى جميع أقطار الآفاق، مستعلية على السبع الطباق، بأن ينادى فى جانبى مدينة السلام بالإفاضة بالعدل والإحسان، فى عموم الرعايا بالطول والامتنان، وكف كل يد عادية عن الظلم والعدوان، وإزالة ما أحدثه عمال السوء، ولبسوا فيه من الموّن والتقسيطات، والطروح والتأويلات، فليقبلوا هذه الرحمة العميمة، وليؤدوا حق هذه النعمة الجسيمة، ولتشكروا الله على ما منحكم به فى هذه الأيام التى هذا عنوان شريف مراحمه، ومبادئ عواطفه المقدسة ومكارمه؛ ثم أخلصوا الأدعية فى دوام دولته، والثبات على مفترض طاعته، وصلى الله على سيدنا محمد النبى وآله الطاهرين وسلامه» .
وقرئ بعد ذلك فى الأسواق، ونثر عليه الفضة والذهب، وارتفعت الأصوات بالأدعية.
وفى يوم السبت ثالث عشر شوال وصل رسول الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، معزيا بالإمام الناصر، ومهنيا بالإمام الظاهر، وهو الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر بن الأثير الجزرى، وأدّى الرسالة بين يدى الوزير مؤيد الدين بن العلقمى، نسختها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، العبد يقوم بعذره قبل قوله، فإن هذا المقام مقام مهابة، لا تجد الخواطر فيه شبحا، فإذا بلغ البليغ جهده، كان قصاراه أن يسأل صفحا-ثم أشار بيده إلى الوزير مؤيد الدين يقول:
إن كان لا يرضيك إلاّ محسنا
…
فالمحسنون إذا لديك قليل
عبد الديوان العزيز النبوى، لؤلؤ، يعزّى نفسه خاصة، والمسلمين كافة، بفقد من الإسلام له فاقد، ومن لم نشك الوحدة لمصليه إلاّ إلى واحد، وهو سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، الذى التفت الأرض منه على سجى ثراها، ومسك عراها، ونادى سنّة العدل والإحسان كما أن الله يراها، فأى سحاب يصب عنها سبل مواهبه، وأى جبل حفت جنوبها لمزايلة مناكبه، لكن تلافى الله تعالى بقيام ولى عهده من بعده، سيدنا ومولانا الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، فعطف الله هذه النعمة على تلك البؤسى، وأنست من كلمها الذى لولاها لما كان يوسى.
وفى الحى الميت الذى غيّب الثرى فلا أنت مغبون، ولا الدهر غابن، وما من أحد إلا فاستبدل عزاءه بهنائه، ورأى عمود الإسلام قائما بعد هدم بنائه، وعلم أن الدهر أذنب ثم اعتذر، وقال هذه الشمس طالعة إذ غيّب القمر، وأشبه لديه رتق هذا الفتق برتق فتق أبى بكر بعمر. وقد حضر العبد نائبا عن مرسله فى إعطاء صفقة يمينه وثمرة قلبه، أخذا بقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ}
{أَيْدِيهِمْ»} ولو حضر البيعة سعد لرأى مطلعها سعدا، ولم يجد من الدخول فيها بدّا، ولما غم فى قطيفته غما، ونأى عن دار قومه بعدا، فهى أخت بيعة الرضوان، دائمة الشرائط المشروطة وعقود الأيمان، والموكب الذى التجأه بين صفوته وعيانه، ومطية النجاة بين صهوة وعنان. وللسابق فى مثل هذا المقام فضيلة سبقه، كما أن للصادق مزية صدقه، وكلاهما مجموع لمرسل العبد فى الفوز بقصب المضمار، والذى إسراره كإعلانه، وقليلا ما يستوى حالتا الإعلان والإسرار. ولئن غاب عن الحضور بنفسه فهو فى عداد من حضر، والتعويل إنما هو على صدق النية التى أثرها هو الأثر.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن وراءكم قوما بالمدينة ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» . فليعول الديوان العزيز على القوى الأمين، وليضنّ به وإنما يضن بالضنين».
وفيها توفى الملك الأفضل نور الدين على بن السلطان صلاح الدين. توفى بسميساط فجأة، فى شهر صفر. ونقل إلى حلب ودفن بها. وعمره يومئذ سبع وخمسين سنة.
وملك بعده سميساط أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى.
ومن كتاب «جنى النحل» ، قال صاحبه: حضرت يوما بمدينة سميساط، وملكها يومئذ الملك الأفضل نور الدين على بن السلطان صلاح الدين، وهو يعرض جيشه، وأنا جالس معه، فنظر إلى صبى تركى حسن الشباب، وهو لا بس الزّرد، فقال لى: قد قلت فى هذا شئ على البديهة، وأنشد:
وذى قلب حديد ليس يقوى
…
على هجرانه القلب الجليد
تدرع للورى درعا فأضحى
…
وظاهره وباطنه حديد
ومن شعره أيضا:
يا من يسّود شعره بخضابه
…
لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظى لحظة
…
ولك الأمان بأنه لا ينصل
وله فى المعنى:
أى صديق سألت عنه ففى ال
…
خمول وتحت الذل فى الوطن
وأى ضد سألت عنه
…
سمعت ما لا تحبه أذنى
ومن كتاب «جنى النحل» أيضا، قال: إن بمدينة الرّها باب من جملة أبواب المدينة، يعرف بباب إقساس، متى فسد عندهم الشراب وصار خلاّ يدخلون به من ذلك الباب، فيعود شرابا كأحسن مما كان. وقال إن الملك كيكاوس السلجوقى -المقدم ذكره مع رسول نور الدين الشهيد-قال: دخل إلينا إلى الروم فى وقت رجل ادعى أنه نبى، فقيل له:«ما علامة قولك وبيانه؟» قال: «أقيم اليوم والعشرة بغير أكل ولا شرب، وأظل عند ربى يطعمنى ويسقينى» . فامتحنوه، وتركوه عشرة أيام بغير زاد ولا شراب فى بيت عريانا، ثم أخرجوه وهو كأصح ما يكون. فتعجب الناس منه، وتبعه قوم كثير، واعتقدوه. ثم إنه فتش فوجد معه خاتم فى أصبعه بوفق قد صنع، فانتزع منه الخاتم، فاستغاث الجوع العطش. وكان السر فى خاصيّة الخاتم.
ومن ذلك أن الملك كيكاوس المذكور، كان قد حضر إليه ناصر الدين ابن أبى النجيب، وكان من الحكماء الكبار يعرف خواص الطلسمات، فأدناه منه وقربه إليه، حتى عاد يدخل على الحريم بطريق الطب. فهو يته حظية من حظايا السلطان المذكور، فوشى به للسلطان، وتحقق أمره. وحملت الجارية منه، فأمر السلطان بقتلها وقتله. فأما الجارية فإنها قتلت لوقتها، وأما ناصر الدين فإنه ضرب بالسيف فلم يعمل فيه شئ، ثم ضرب بالسكاكين فلم تعمل فيه. ورأى نفسه أنه يجد الألم ويعذب، ولا بد من موته، فأمرهم أن يأخذوا من شعره حرزا مشمعا صغيرا محروزا عليه. فلما أخذوه وقع لوقته ميتا. وكان ذلك الحرز يمنع السيف أن يعمل فيه، والله أعلم.
وفيها توفى جعفر بن شمس الخلافة الشاعر، نسبته إلى الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، المقدم ذكره فى دولة الفاطميين. وكان فاضلا أديبا شاعرا. وله تواليف وديوان شعر، فمن ذلك قوله:
هى شدة يأتى الرخاء عقيبها
…
وأسى يبشر بالسرور العاجل
وإذا نظرت فإن يوما زائلا
…
بالبؤس خير من نعيم زائل
وله فى الوزير شكر:
مدحتك ألسنة الأنام مخافة
…
وتشاهدت لك بالثناء الأحسن
أترى الزمان مؤخرا فى مدتى
…
حتى أعيش إلى انطلاق الألسن
وحكى عنه أنه أصابته ضائقة شديدة فى أيام السلطان الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، فعمل قصيدة هجا بها الملك العادل وولده الكامل، أولها يقول:
يا ظالما لقّب بالعادل
…
ويا ناقصا لقّب بالكامل
أهلكتما كل جميع الورى
…
لا عشتما دهرا إلى قابل
وهى طويلة، وفيها سب قبيح فى مثل تلك الملوك الحسان، أضربت عنها.
وكتبها، وأتى بها إلى دار الوزارة بالقاهرة. قال: وأعطيتها إلى الطواشى صواب العادلى، وكان يومئذ أستادار السلطان، فجعلها فى جملة القصص، فدخل بها إليه فقرأها السلطان، وجعلها تحت فخذه إلى أن قام من مجلسه، وقد صار وقت الظهر، وخرج جميع الناس من بين يديه. فسير من كشف أمرى، فوجدنى جالسا أنتظر الجواب بما يكون، فاستدعانى، فدخلت عليه، فقال:«هذا نظمك؟» . قلت: «نعم» . قال:
«فما حملك على هذا؟» . فقلت: «الفقر والفاقة، إما تقتلنى فأستريح، وإما أن تشملنى صدقاتك» . قال: فأمر لى بمائة دينار. فقلت: «ولا بد من مركوب» . فأمر لى ببغلة.
فخرجت من بين يديه. ثم خطر ببالى الزيادة. فقلت للطواشى: «أعدنى إليه» . فشاور علىّ فدخلت عليه. فقلت: «لم يشملنى إنعام السلطان بقوت العائلة» . فأمر لى بخمسين أردب قمح. قلت: «وعليق البغلة» ، فأمر بعشرين أردب شعير. فخرجت، ثم قلت للطواشى:«أريد العودة إليه» . فقال الطواشى: «أظنك مجنون، ورب الكعبة» .
فقلت: «لا بد من العود إليه» . قال: فدخلت عليه ثالثة، فقلت: «لا بد من خلعة
أكمد بها العدو، وأسر بها الصديق». فقال:«أما هذا فلا تسمع الناس أنك هجوتنا ونخلع عليك» . قلت: «فليكن هذا الإنعام الذى تصدق به السلطان مقررا راتبا فى كل سنة» . فقال: «أولا تعيش لذلك. لكن احضر لنا مسودة هذه القصيدة التى أحسنت فيها وتفضلت» . فقلت: «ليس لها مسودة، إلا حفظى لها بلسانى» .
فقال: «قطعه الله» . ثم خرجت من بين يديه وقبضت جميع ذلك. وهذا مما يعتد به من حلم الملك العادل، رحمه الله.
وفيها فتح السلطان جلال الدين الخوارزمى مدينة تفليس. وهذه كرسى مملكة الكرج. وعجز عن فتحها سائر الملوك المتقدمة من آل سلجوق وغيرهم، من حيث غلبت عليها الكرج. وكان الكرج لما افتتحوها أبقوا من بها من المسلمين. فلما قوى سلطان جلال الدين وتتبع الكرج وقتلهم بكل مكان، طلب تفليس، وافتتحها عنوة بالسيف، بمساعدة من كان بها من المسلمين، وقتل جميع من كان فيها من الكرج.
وفيها كانت الوقعة بين عسكر جلال الدين وبين عسكر الملك الأشرف موسى.
وكانت النصرة لجماعة الأشرف، ومقدمهم حسام الدين على الحاجب.