الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.
ما لخص من الحوادث
الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، والخطبة يومئذ له بسائر بلاد الإسلام.
وانقطعت الدولة الفاطمية إلى الآن، وعاد الحق إلى نصابه، والأمر إلى صوابه.
وقيل إن نور الدين الشهيد فى هذه السنة صاحب دمشق بحاله، وأن وفاته فى سنة تسع وستين.
وفيها أمر السلطان بقتل جميع السودان بالديار المصرية وسائر أعمالها.
وفيها توفى نجم الدين أيوب، والد السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى، ثامن عشر ذى الحجة من هذه السنة.
وفيها وجه السلطان أخاه فخر الدين توران شاه إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة يقال لها بريم، وعاد ومعه جماعة من أهلها. وفيها خرج السلطان صلاح الدين إلى غزاة الكرك.
ذكر منازلة الكرك وسببه
كان السلطان صلاح الدين-رحمه الله-قد اصطلح مع الإبرنز صاحب الكرك. وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده.
ووقع الصلح بينهم إلى وقت معين، بشرط أن المسافرين يسافروا والقفول لا تنقطع، والتجار لا تتعوق من الشام إلى مصر، والخفر على الإفرنج. فاتفق أن صاحب الكرك شرب ذات ليلة وسكر، وأمر الخيالة أن تنزل تقطع الطريق على المسافرين من المسلمين، فركبت الخيالة ومعهم الرجالة، ونزلوا، فأخذوا خلقا كثيرا من التجار والتركمان والفقراء والمسافرين. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك عظم عليه، وأنذر لله-عز وجل-إن ظفره الله تعالى بصاحب الكرك ذبحه بيده، تقربا إلى الله بدمه، وأن يجعل حجارة قلعته على الأرض. ثم نفذ إلى سائر ملوك الإسلام، يحثهم على الغزاة، فجاءه الناس من كل فج عميق.
وقدح زند الحرب، وانتدب للطعن والضرب. وخرج بنية صادقة، وقلوب على النزاة موافقة. ثم إنه نزل على الكرك، وأمر بقطع الأشجار، وأقام عليها شهرين متتابعين، ورتب عليها النقوب والزحوف، ونصب المناجنيق. وعبرت الناس تحت النقوب، وخاسفهم الفرنج، وقتل فى ذلك اليوم خلق كثير من الفئتين. وكان الملك المعظم عيسى بدمشق، حسبما سقناه من أخباره، فحضر بعساكر الشام.
وكذلك قدمت الجيوش من عند صاحب الموصل سيف الدين غازى بن مودود.
وجاءت سائر ملوك الإسلام. ثم إن السلطان صلاح الدين جدد من الجيوش على طبرية مع أخيه فخر الدين توران شاه. ثم قدم بنفسه، وفتحها الله تعالى على يديه، بعد ذلك مع قلعة حطين، التى مجاورة الطور.
فلما بلغ ملوك الفرنج اجتماع كلمة ملوك الإسلام، انتحوا للدين الذى لهم، وقالوا:
«لا بد من الموت، فموتنا فى هذه الأرض المقدسة خير لنا من غيرها» . وتكاتبوا، وأتتهم النجدة من كل أرض وجزيرة، واجتمعوا مائة ألف واثنى عشر ألف،
ما بين فارس وراجل، ورفعوا صليب الصلبوت يزعمهم؛ وهى قطعة خشب يدعون أنها من الخشبة التى صلب عليها المشبه بعيسى بن مريم، صلوات الله على عيسى وسلامه.
ثم توجهوا بجموعهم إلى نحو السلطان صلاح الدين ليمنعونه عن طبرية وأخذها. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك جد فى سيره، وقحم خيله، حتى سبقهم إليها بيوم واحد، ونزل عليها. ثم التقى الجمعان على السطح بطبرية، وذلك يوم الجمعة الرابع والعشرين من جمادى الآخر. وحاز بينهم الليل، فباتوا على مصافهم فى سلاحهم، متوجهين إلى الله عز وجل، مستهلين له بالدعاء والتضرع، يسألوه-جل وعز-أن ينصرهم على أعدائه. فلما كان عند الصباح التقى الفريقان بأرض لوبيه. ولم يزل السيف يعمل، والرجال تقتل، ونار الحرب تشعل، إلى الليل. ولم يحجز بينهم إلا الليل. وقد حازت المسلمون الماء بأرض الجزيرة إلى الصباح. وثار الحرب بينهم، وقد اشتد بالملاعين العطش، وقوى عليهم الحر، وأوقع الله فى قلوبهم الرعب، فاشتد خوفهم. فلما كان وقت الظهر انهزمت منهم طائفة ثم تبعتها أخرى.
وركب المسلمون ظهورهم قتلا وأسرا، فلم ينج منهم إلا من تعلق بجبل أو أدرك حصنا من حصونهم. وهرب القمص ونجا، واحتاط المسلمون ببقية ملوكهم، وهم صاحب الكرك المقدم ذكره، وأرناط صاحب القدس الشريف،
وجفرى صاحب صقلية، وأولى صاحب جبيل، وابن صاحب اسكندرونه، وامجل صاحب مرقيّة، وفروخ صاحب بيروت. وهؤلاء الذين ذكرناهم كان كل واحد منهم عسكره نظير عسكر السلطان صلاح الدين وأزيد، وإنما نصره الله تعالى عليهم، لما علم صدق نيته فى محبة جهاد أعدائه. وأسر من الديوية والاسبتار والبنادقة والبارومية خلق عظيم. وقتل من الفرنج ما لا يحصى كثرة. وهذه الوقعة التى ذلت بها ملوك الفرنج لصلاح الدين.
قال ابن واصل وهو القاضى جمال الدين قاضى قضاة حماه فى تاريخه، المسمى «مفرج الكروب فى أخبار ملوك بنى أيوب»: إن هذه الواقعة كانت فى سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، بعد رجوع السلطان من بلاد الشرق. وأقول إنه الصحيح؛ فإن صاحب التاريخ-أعنى أبو المظفر جمال الدين يوسف-الذى نقلت منه هذا التاريخ فى أخبار بنى أيوب، كان إذا ذكر واقعة، استمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها. والقاضى جمال الدين بن واصل حرر تاريخ السنين، فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. والعهدة فى جميع ما أذكره على نسخ الأصل. ولعل ما آفة الأخبار إلا رواتها.
ثم ضرب الدهليز السلطانى الصلاحى، وجلس السلطان صلاح الدين، وأجلس بين يديه ملوك الفرنج على مراتبهم وأقدارهم، وأجلس صاحب الكرك أسفلهم، وكان أكبرهم قدرا. وسبب إهانته غدره ونكثه، حسبما تقدم من ذكر ذلك. ثم قال له السلطان صلاح الدين:«كيف رأيت صنع الله تعالى وعاقبة الغدر والنكث؟»
فأطرق إلى الأرض. ثم أمر به فكبل، ووثب السلطان فنحره بيده بين الملوك لوفاء نذره، فصلّب الجميع بأيديهم على وجوههم. ثم إنه أنفذهم إلى دمشق فى قيودهم، فاعتقلهم بها.
قال ابن واصل فى تاريخه: سبب قتل البرنس صاحب الكرك وكيفيته أنه لما منّ الله تعالى بالنصر على الإسلام، أمر السلطان بالملوك، فأجلسهم فى الدهليز السلطانى، وجلس السلطان فى سرادقه، وأمر بإحضار البرنس، وأوقفه على غدره وقوله. وكان الملعون لما غدر بالقافلة التى أخذها، قال لهم:«قولوا لمحمدكم يخلصكم» .
فقال له السلطان: «ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم» . ثم عرض عليه الإسلام، فأبى، فسلّ السلطان النمجاه وضربه فحل كتفه، وتمم عليه من حضر من المماليك، وسحب. فلما رآه الملك هنفرى ارتاع، وظن أنه سيكون ثانيه، فأحضره السلطان، وطيب قلبه، وقال:«إنما فعلت بهذا ما تراه لأنه تعدى طوره. وإنما الملوك لا تقتل الملوك» . ثم إن السلطان أمر بقتل سائر الداوية والاسبتار، فقتلوا عن آخرهم.
ثم إنه رحل إلى عسقلان، لما كان على المسلمين منها من الأذى ومنع الطرق بسببها، فإذا أخذت أمنت الطرق، وسافرت القوافل والتجار. وكانت هذه عسقلان أم تلك الديار، ومعقل عظيم من معاقل الفرنج. واجتمعت الفرنج عليها، وحاصرهم السلطان صلاح الدين، فلم يلتفتوا إلى ذلك لحصانة المكان، وكثرة رجاله، والمراكب تأتيهم بما يمتارون، فسير صلاح الدين أحضر ملوك الفرنج من دمشق، ونفذ إلى من بعسقلان يقول:«متى لم تسلمونا الحصن قتلت ملوككم» . فلم يسمعوا ذلك، ولا رجعوا إليه، وردوا أنحس جواب. فاتكل على الله-عز وجل-وجدّ فى حصارهم، ونصب المناجنيق. فلما تحقق الملاعين أن لا بد له من الحصن وفتحه،
أرسلوا يقولوا: «سلّم إلينا ملوكنا ونحن نسلم الحصن إليك» . فاتفق الحال على ذلك، وأن يسلموا إليه عسقلان وجميع حصونها، وهى: الزعقة، والعريش، والداروم، وغزة، والرملة، والنطرون، وبيت جبريل. فسلموا جميع ذلك بالأمان، وأطلق السلطان ملوكهم.
وقيل إن فى هذه السنة كانت وقعة الريدكور صاحب صقلية المقدم ذكرها، والله أعلم.
وفيها كسفت الشمس بعقدة الرأس، واستعرف منها النصف والثمن.
وفيها قبض على جماعة من كبار المصريين، وهم: زين الدولة شبرام، والأعز العوريس، وضياء الدين بن كامل، والقاضى عبد الصمد، وعمارة اليمنى الشاعر، ومصطنع الملك، وقاضى القضاة ابن عبد القوى. وفيهم منجم نصرانى قال لهم:
«أنتم تملكون من صلاح الدين بعد تسعين يوما» . ونقل للسلطان ما اتفقوا عليه من مكاتبة الفرنج بالحضور، وأن يعيدوها فاطمية. فشنقوا بأجمعهم فى سوق الخيل.
وفيها توفى فخر الدين داود صاحب حصن كيفا، وولى ولده نور الدين محمود.