الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالهلاك. ودامت كذلك سبعة أيام، ثم نقص الماء، وعادت بغداد تلال خراب من الجانبين. وهذه غرقة أخرى غير الأولى المقدم ذكرها.
ذكر توجه السلطان خوارزم شاه
إلى نحو بغداد
فى هذه السنة قدم السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش السلجوقى إلى همذان طالبا بغداد، فى أربعمائة ألف عنان-وقيل فى خمسمائة ألف عنان-واستعد له الإمام الناصر لدين الله، وفرّق الأموال والسلاح. وسير إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى -المقدم ذكره-رسولا، فأهانه، واستدعاه، وأوقفه إلى جانب تخته، ولم يأمره بالجلوس. وعن أبى المظفر قال: حدثنى الشيخ شهاب الدين السهروردى قال: استدعانى السلطان علاء الدين خوارزم شاه، فأتيت، فدخلت إلى خيمة عظيمة، فيها دهليز لم أر فى الدنيا مثله. وتلك الخيمة والشقة والدهليز أطلس معدنى قرمزى.
والأطناب حرير أبريسم. وفى ذلك الدهليز ملوك عراق العجم على اختلاف طبقاتهم، مثل صاحب همذان، وصاحب أصفهان، وصاحب الرى، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أخرى أعظم من الأولى أطلس معدنى قرمزى، بنوارات زركش، وأطناب حرير. وفى دهليزها ملوك خراسان مثل صاحب مرو، وصاحب نيسابور، وصاحب بلخ، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أعظم من الأولتين، وملوك ما وراء النهر فى دهليزها. ثم دخلت إلى خركاة عظيمة، أضلاعها ذهب عين، وعليها سجاف مرصع بالجواهر، يأخذ بالبصر. ثم دخلنا عليه، فوجدناه فى خركاة حسب العادة، مغشية بلبد أبيض، وهو جالس على تخت ساذج. وهو شاب بوجه كالترس، ورأسه
كرأس البغل، وله شعرات يسيرة فى وجهه، وعليه قباء بخارى يساوى خمس دراهم، وعلى رأسه قطعة من جلد تساوى درهمين. قال الشيخ شهاب الدين: فسلمت عليه، فلم يرد علىّ، ولا أمرنى بالجلوس. فشرعت، فحمدت الله عز وجل، وخطبت خطبة بليغة، ذكرت فيها فضل بنى العباس، ووصفت الخليفة بالزهد والورع والدين، والترجمان يردّ عليه قولى. فلما فرغت من كلامى قال للترجمان:«قول له هذا الذى تصفه ما هو هذا الذى فى بغداد، وإنما أنا أجئ إن شاء الله تعالى إلى بغداد، وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف» . ثم ردّنا بغير جواب. ثم رحل ونزل بلخ، فأرسل الله عز وجل على جيشه ثلجا عظيما، ما نظروا مثله، أهلك دوابهم، ووقع كثير من أطارف قومه من قوة الثلج الذى نزل بهم. ثم إن خوارزم شاه ركب يوما فرسه، فعثر به أطاحه من سرجه، فتطيّر من ذلك، ووقع فى عسكره الفساد. وكان معه سبعين ألف من الخطاء، فاختلفوا عليه، فعاد إلى بلاده فى تلك السنة. هذا ما ذكره أبو المظفر.
وأمّا ما ذكره الشيخ شهاب الدين أبو شامة قال: نسخت من كتاب محمد بن محمد ابن أحمد النسوى، الجامع لأخبار التتار مع السلطان علاء الدين خوارزم شاه ومع ولده السلطان جلال الدين منكبرتى، وقد اختصرت ما أمكن تلخيصه. حكى القاضى مجير الدين الخوارزمى أن السلطان علاء الدين سير مرارا إلى بغداد، آخرها بمطالبة الديوان بما كان لبنى سلجوق من الحكم، والنزول ببغداد، فأبوا عليه ذلك، وأنفذوا إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى رسولا، مدافعا لما طلب من الديوان العزيز. وكان عند السلطان علاء الدين من حسن الاعتقاد ما أوجب تخصيص الشيخ برفيع المنزلة، ومزيد الاحترام، ما يميّز به عن سائر الرسل الواردة عليه من سائر الأقطار. وأنه لما دخل إليه الشيخ، أقبل عليه وأكرمه وأجلسه.
فقال الشيخ: «من سنّة الداعى لهذه الدولة القاهرة أن يقدم على أداء الرسالة حديثا من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم» . فأذن له السلطان فى ذلك، وجلس على ركبتيه تأديبا لسماع الحديث. فذكر الشيخ حديثا فيه تحذير من أذيّة أقاربه. فلما فرغ الشيخ من رواية الحديث، قال السلطان:«أنا ما أذيت أحدا من أقاربه، ولا من آل العباس، ولا قصدتهم بسوء. وقد بلغنى أن فى مجلس أمير المؤمنين منهم خلق كثير مخلدين، يتناسلون فى الحبوس. فلو أورد الشيخ هذا الحديث بعينه على مسامع أمير المؤمنين كان أولى وأنفع» . فعاد الشيخ والوحشة قائمة. ثم عزم السلطان علاء الدين على طلب بغداد، وقسم نواحيها إقطاعات لعمال من قبله. وسار حتى علا عقبة أسداد فنزلت عليه الثلوج حتى ملأت عليه الأباطح وغطت الخراكى والخيام. ودام كذلك أسبوعين، فشمل الهلاك خلقا من عساكره، ولم ينج شئ من الجمال، وتلفت أيدى أناس كثيرة، فرجع عن وجهه، وسيأتى تتمة أخباره فى مكانها.
وفيها كان جفل السلطان الملك العادل من الفرنج لما خرجوا عليه بجموعهم، ووصلوا إلى عين جالوت فأحرقوها. وطلع السلطان إلى قلعة عجلون، وقطع الفرنج خلفه الأردن، وأوقعوا باليزك، وغاروا على البلاد. وورد المرسوم إلى المعتمد والى دمشق بالاهتمام والاستعداد، واستخدام الرجال، وتدريب الدّروب على قصر حجاج والشاغور وطرق البساتين. ونقلت غلة داريا إلى القلعة بدمشق.
وغرقوا الأراضى بالمياه لأجل الفرنج الملاعين، وقصدهم إلى دمشق. وأرسل السلطان
إلى ملوك الشرق يستحثهم. ثم نزل السلطان على مرج الصفار ليجتمع العساكر فيه.
ووقع عند ذلك الجفل العظيم، وعزم الناس على النزوح عن أوطانهم بدمشق. وعاد للناس ضجيج وبكاء وتضرع إلى الله عز وجل فى أوقات الصلوات بالجامع. ثم إن الفرنج-خذلهم الله-عادوا إلى عكا بجميع ما احتووا عليه من الأسارى وكانت غارتهم وصلت إلى زحر وإلى فيق وغيرهما. ثم وصل الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص بمن اجتمع إليه من العساكر لنجدة الناس، ودخل من باب الفرج بعد جهد جهيد لازدحام الناس. ومضى من فوره إلى دار ست الشام-أخت السلطان الملك العادل- فسلم عليها. ثم عاد إلى داره وبات بها. وأصبح متوجها إلى خدمة السلطان، فعند ذلك سكنت نفوس الناس.
وكان الملعون ملك الفرنج فى ذلك الوقت وجامع حشودهم يقال له الملك العنكر، وكان فى خمسة عشر ألف قنطارية فرسان، خارجا عن الرجالة. وكان هذا الملعون شجاعا مقداما. قال أبو المظفر: لما رجع هذا الملعون بمن معه من خربة اللصوص، ووصلوا إلى تل الفرس. ثم رحلوا ونزلوا تحت الطور يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، وأقاموا إلى يوم الأحد ثانى رمضان، وكان يوما كثير الضباب. فما شعروا بهم أهل الطور إلا وهم عند الباب، وقد ألزقوا رماحهم السور. فعند ذلك فتح المسلمون الباب، وخرج إليهم الفارس والراجل، وقاتلوهم أشدّ قتال، حتى رموهم إلى أسفل
الطور. فلما كان يوم الثلاثاء رابع الشهر المذكور، طلعوا بأسرهم، وصحبتهم سلم عظيم، فزحفوا من ناحية المرامى من نحو باب دمشق. ولم يزالوا حتى ألزقوا السلم السور، فقاتلهم المسلمون قتالا لم يعهد فى جاهلية ولا إسلام مثله، لشدته.
ودخلت رماح الملاعين من المرامى من كل ناحية، فضرب بعض الزراقين السلم بقارورة نفط أحرقه، وقتل عنده جماعة كبيرة من أعيان الفرنج، وقتل كند كبير من كبارهم. فلما رأوه صاحوا صيحة عظيمة، وكسروا رماحهم عليه. واستشهد فى ذلك اليوم من المسلمين من الأمراء بدر الدين محمد بن أبى القاسم، وسيف الدين مرزبان، وكانا من الأمراء الأجواد الصلحاء، رحمهما الله تعالى. وغلقوا الأبواب، وباتوا يداوون الجرحى، واتفقوا أنهم يقاتلون قتال الموت ولا يسلمون أنفسهم، فيجرى عليهم كما جرى على أهل عكا. وكان فى الطور أبطال المسلمين. وأوقد الفرنج حول الطور النيران. فلما كان يوم الخميس سادس رمضان وقت السحر رحل الفرنج طالبين عكا، ولم يعلم لذلك سبب. ثم إن الملك المعظم وصل الطور، وأطلق الأموال، وأخلع على سائر من كان بها، وشكر لهم ما صنعوه.
وفيها جلس الملك العزيز بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين على كرسى مملكة حلب.
وفيها تتابعت إمداد الفرنج وملوكها فى البحر من المرقية والبنادقة، وهما كرسى مملكة الرومانية، وهى التى فيها الباب الكبير، الذى يزعمون أنه الخليفة عندهم. ثم تتابعت ملوكهم أولا فأولا، وحلفوا أن لا بد لهم من البيت المقدس والشام والساحل بكماله. فلما بلغ السلطان الملك العادل ذلك-وكان بالديار المصرية-