الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما ما ذكره ابن الأثير فى تاريخه قال: لقد بقيت، عدة سنين معرضا عن هذه الحادثة استعظاما لها. أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يسطر نعى الإسلام؟. فياليت أمى لم تلدنى! وياليتنى كنت نسيا منسيّا!. لكنى حثنى على ذلك جماعة من الأصدقاء الكبار الأعيان، وأنا متوقف. وتكلم كلام كثير، معناه التنصل مما سطره فى أمر هذه الحادثة وعظمها. ولعمرى إنه لمعذور فيما اعتذر منه. والعبد أيضا يعتذر عن ما لا بدّ كان من تسطيره، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
ذكر تملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان
علاء الدين خوارزم شاه
وفى هذه السنة تولى الملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش-وباقى نسبه قد تقدم-بعد وفاة أبيه فى تلك القلعة المقدم ذكرها. وكان تمليكه بوصية من أبيه، فركب فى الحالة الراهنة، وتوجّه إلى خوارزم طالبا لإخوته، ومعه سبعون نفرا، فالتقوهم أهل خوارزم بالخيول والسلاح والقماش والعدة. وتباشر الناس بقدومه، واجتمع إليه العساكر الإسلامية، فعاد فى سبعة آلاف فارس، فملك. ثم إن أخويه عملا على مسكه، فأعلمه بعض أصحابه، فرحل طالبا خراسان فى ثلثمائة فارس، وأقام بقية أصحابه بخوارزم. فورد عليهم الخبر بحركة التتار نحو خوارزم، فهربوا على أثر جلال الدين إلى خراسان.
وأما السلطان جلال الدين فوصل إلى نيسابور، وكان جكزخان لما بلغه أن
جلال الدين مشى مكان أبيه علاء الدين أمر التتار أن يتفرقوا عليه فى سائر الطرق، فوقع جلال الدين فى طريقه على سبعمائة منهم قد مسكوا له تلك الطريق، فأيقع معهم جلال الدين وكسرهم كسرة عظيمة، لم يسلم منهم مخبر. وهذا كان أول سيف خضب بدمائهم بالنصر فى الإسلام. ثم ساق جلال الدين إلى نيسابور، وكتب إلى العساكر المشتتة فى الأطراف بسرعة الاجتماع، والقدوم عليه. وأقام ينتظر الجيوش بنيسابور شهرا، والعساكر ترد وتتواصل أولا فأولا. فعلم جكزخان بذلك، فأعجله قبل [أن] تتكامل جيوشه. وأدركته التتار، فخرج من نيسابور بمن انضم إليه، يطوى المراحل إلى كرمان، ثم إلى غزنة. فأتاه الخبر أن أمين الملك -وهو ابن خال السلطان جلال الدين صاحب هراة-قد أخلى هراة، وأن التتار قد قربوا منها، وأن مع أمين الدين عشرة آلاف فارس. فنفذ إليه، واجتمع به، وانضمت العساكر بعضها إلى بعض، والتقى السلطان جلال الدين بالتتار الذين كانوا طالبين هراة، وكان مقدمهم تولوخان بن جكزخان فى عشرين ألف من المغل، فجرى بينهم من القتال ما يشيّب الأطفال. ونصر الله تعالى السلطان جلال الدين، وانهزم التتار، وركب المسلمون أكتافهم قتلا بالسيف. وقتل تولوخان بن جكزخان فى هذه الوقعة.
ولما بلغ جكزخان قتل ولده، وكسر جيشه، رمى سراقوجه على الأرض. وجمع سائر جيوشه، وسار مجدّا حتى وافى السلطان جلال الدين على حافة السند. وكان جلال الدين قد فارقه أخوه وخاله وجماعة من عساكره، فضاق عليه الوقت فى استرجاعهم
لمعاجلة الملعون له، فركب يوم الأربعاء لثمان خلون من شهر شوال من هذه السنة-وقيل من سنة تسع عشرة-والتقى مع جكزخان. وثبت جلال الدين مع قلة أصحابه، ثم حمل بنفسه على قلب جكزخان فمزقه بدادا، وكادت تكون النصرة له، لولا ظهر للتتار كمين كان لهم فيه عشرة آلاف من المغل من أجود فرسانهم، فخرجوا على ميمنة جلال الدين، وكان فيها-على قول-أمين الملك خاله، فكسروها وطرحوها على القلب.
وتبدد نظام جلال الدين، وتزعزعت أقدامه، وأسر ولده. وعاد جلال الدين إلى حافة السند هاربا، فرأى والدته وزوجته وأخته وأولاده أطفالا مع جماعة من حشمه، وهن يصحن بأعلا أصواتهن:«بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الفضيحة والأسر» .
فأمر بهن فغرقن فى السند، وهذه من عجائب البلايا، ونوادر المصائب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ثم إنه لما سدت عليه المذاهب، وأحاطت به النوائب، ومن خلفه السيوف، ومن قدامه البحر العجاج، رفس فرسه وطلب الغرق ولا يسلّم نفسه لسيوف التتار. وكان الجواد من جياد الخيل-مع لطف الله عز وجل فقطع به النهر إلى الجانب الآخر. وكذلك تخلص معه من أصحابه تقدير أربعة آلاف رجل، حفاة عراة. ثم وصل إليه مركب من بعض الجهات، وفيه مأكول وملبوس.
فوقع ذلك عنده موقعا عظيما.
ولما علم صاحب الجودى أن جلال الدين وصل إلى بلاده مكسورا، طلبه بالفارس والراجل، لما كان بينه وبين أبيه السلطان علاء الدين خوارزم شاه من الدخول القديمة، والحروب. فبلغ ذلك جلال الدين، فعظم عليه الحال، إذ لم يكن معه من أصحابه من يمانع عن نفسه، لما فيهم من الجراحات وعريهم من العدد والسلاح، وعدم المركوب، ولا فيهم نجعة للذب. فجفل من مكانه، وأمر كل من
فيه قوة ونجعة يتبعه وإلا يقطع رأسه. وسار عازما أن يقطع السند مختفيا فى بعض الجبال بمن معه، ويعيشوا بما تكسبه أيديهم من الغارات. فصادفوا الهنود إليهم قاصدين. فلما رآهم الهنود ظنوا أنهم التتار، فتأخروا ولم يجد جلال الدين من الموت بد، فتقدم بمن معه، وتقدم ملك الهنود أيضا. ووقف جلال الدين حتى قاربه، وكان فى يده قوس. وكان شديد الساعد، ففوق سهما ورمى به ملك الهنود فأصاب صدره، وخرّ لوجهه يموج فى دمه، وانهزم جيشه، وأخذهم أصحاب جلال الدين.
وكسب [جلال الدين] خيله ومتاعه، وقوى نفسه بعد الإياس من الحياة. فسبحان المدبر الحكيم.
ثم رحل [جلال الدين] إلى سجستان، وأخذ ما كان له بها من الخزائن، وأنفق على من كان معه. ثم أتاه الخبر أن أيتامش قاصده فى ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل، فسار جلال الدين نحوه تجلدا منه وصبرا. وقدّم أمامه جاهان بن بهلوان أزبك، فهجم على أيتامش، فتأخر له. ونفذ رسول إلى السلطان جلال الدين يطلب الصلح، ويقول:«ليس يخفاك ما وراءك من عدو الدين، وأنت سلطان المسلمين وابن سلطانهم. وقد رأيت أن أزوجك بنتى وأكون عضدك» . فمال السلطان جلال الدين لذلك، وسير مع رسوله نفر من أصحابه، فطاب لهم المقام عند أيتامش. ثم وردت الأخبار عليه أن أيتامش وقباجه وسائر ملوك الهند اتفقوا على السلطان جلال الدين، وأن يمسكوا عليه حافة السند، فعظم عليه ذلك وأخفاه، واستناب جاهان ابن بهلوان على ما بيده من ممالك الهند، وسار طالبا للعراق. فلما وصل إلى كرمان، وهو فى أشد الأحوال مما قاساه ومن معه فى تلك البرارى والصحارى التى بين الهند وكرمان، ووصل فى أربعة آلاف، منهم من هو راكب البقر والحمير وغير ذلك.
وكان ذلك فى سنة إحدى وعشرين وستمائة.