الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذى نقلته فى جميع هذا التاريخ عن أبى المظفر محيى الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى، وفيه مناقضة لتاريخ ابن واصل.
قال ابن واصل: إن مدة مملكة الملك الكامل استقلالا بالديار المصرية وما معها -من حين توفى السلطان الملك العادل أبوه-عشرون سنة. وكان فيها نائبا عن أبيه فى حياته عشرين سنة أخرى. وأشبه حاله فى ذلك حال معاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه-فإنه ولى الشام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة أخرى.
ثم اجتمع الأمراء، وهم: الأمير سيف الدين على بن قليج، والأمير عز الدين أيبك، والأمير ركن الدين الهيجاوى، والأمير عماد الدين بن موسك، والأمير فخر الدين وأخوه عماد الدين أبناء الشيخ، فتشاوروا، وانفصلوا على غير شئ.
وافترقت الأغراض والأهواء؛ فمنهم من أشار بالناصر داود، ومنهم من أشار بالجواد. وأشاروا على الناصر داود أن يخرج الأموال، ويرغّب الناس. وكان عماد الدين بن الشيخ يكره الناصر، فأشار بالجواد، ووافقوه الباقى، وأرسلوا الركن الهيجاوى يوم الجمعة يقولوا للناصر داود-وهو نازل بدار أسامة-:«إيش قعادك فى بلد القوم؟» ، فخرج وركب، والعامة تظن أنه صاحب الملك، حتى خرج من باب الفرج، فصاح العامة:«لا! لا! لا!» . وانقلبت دمشق، ووقع [بهاء الدين] ابن ملكيشو فى الناس بالدبابيس، وهو يومئذ والى دمشق، وهم لا يكادون يرجعوا.
ذكر تملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود
ابن السلطان سيف الدين الملك العادل لدمشق
قال أبو المظفر-رحمه الله: ثم إن الملك الجواد لما اجتمعت آراء الأمراء عليه، فتح الخزائن، وأخرج الأموال، وحسب تقدير ما فرقه فكان ستمائة ألف دينار، وخلع،
وأعطى، وبطّل المكوس والخمور. وأما الناصر، فإنه أقام بالقابون أياما، ينتظر الغوائل والفرصة، فأجمع الأمراء رأيهم على القبض عليه، فسير إليه فى الباطن عماد الدين بن موسك يعرفه، فرحل ونزل قصر حجاج، ثم قصر عفرا، وأقام.
فجردوا إليه عز الدين أيبك الأشرفى ليمسكه. فلما بلغه سار إلى عجلون، ثم سار من عجلون إلى غزة، واستولى على الساحل. فتجهز الملك الجواد، وخرج إليه فى عسكر مصر والشام، وقال للأشرفية:«كاتبوه وطمعوه» ، ففعلوا واغترّ بذلك، فساق من غزة فى سبع مائة فارس بجميع خزائنه وأثقاله-وكانت على سبع مائة جمل-وترك عساكره منقطعة خلفه، وضرب دهليزه على سبسطية، والجواد على جينين. ثم ساق عليه الجواد، وأحاط بالناصر، فهرب فى نفر قليل إلى نابلس، وترك أمواله وأحماله، فأخذها الملك الجواد بأحمالها، واستغنى بها، وافتقر الناصر إلى آخر الأبد.
قال أبو المظفر: وبلغنى أن عماد الدين بن الشيخ وقع بسفط فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر مع فصوص ليس يعرف لهم قيمة فيعبر عنها، فدخل على الجواد، واستوهبه منه، فوهبه له. ثم سار الناصر لا يلوى على شئ حتى طلع الكرك. وكانوا قد أشاروا عليه أن ينفذ خزائنه إلى الكرك، ويتقدم، فإذا حصل له الغرض كانت الأموال قدامه، فلم يلتفت إلى مشورة من أشار، واغترّ بمكاتبة الأمراء الأشرفية، ولله فى خلقه أسرار خفية، وحكم مطوية. ثم توجه فخر الدين بن الشيخ إلى الديار المصرية، وبها يومئذ الملك العادل الصغير سيف الدين أبو بكر بن السلطان الملك الكامل.
واستقر الملك الجواد نجم الدين أيوب بن السلطان صلاح الدين ملكا بدمشق.
وكذلك كل ملك على ما بيده من البلاد. وكان صاحب حمص خائفا من الملك الكامل بسبب اتفاقه مع الأشرف عليه. فلما توفى الكامل، كاد يجن من الفرح، وركب إلى الميدان، ولعب الأكرة. ولم تكن له بذلك عادة.
وأمّا صاحب حماة، فإنه لما بلغه موت الكامل انقطع ظهره، واشتد خوفه من صاحب حمص.
وفيها نزل عسكر حلب على المعرات وملكهما، واستولوا على تلك الأعمال.
ولمّا توفى الملك الكامل-رحمه الله-كان الملك الصالح نجم الدين أيوب -ولده-بالشرق، وقد فتح سنجار ونصيبين والخابور. ثم إنه توجه إلى الرحبة، وهى يومئذ فى مملكة الملك المجاهد أسد الدين شير كوه صاحب حمص، فهو فى حصارها، وقد عزم أن ينتقل إلى حمص بمكاتبة كانت بينه وبين أبيه فى ذلك، إذ ورد عليه الخبر بموت السلطان والده، فرحل عنها. وخرجت الخوارزمية عن طاعته، ورجع هاربا إلى سنجار، ولله در قول العرب:«الخيل ترعى بالحصان المربوط» . ثم إن الملك الصالح سيّر إلى بعض الخوارزمية واسترضاهم، وأنعم عليهم، وعادوا إلى خدمته.
وفى هذه السنة وقع الخلف فى سائر الأقاليم، شرقا وغربا.
وفيها اتفق الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب، مع الملك غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى، صاحب الروم، على الملك نجم الدين أيوب. وخطب غياث الدين بنت الملك العزيز أخت الملك الناصر يوسف صاحب حلب، وأرسل رسله إلى الصاحبة الست خاتون والدة الملك العزيز، فوقع الاتفاق على ذلك. واجتمع الناس بقلعة حلب، وعقدوا عقد غازية خاتون على
السلطان غياث الدين كيخسرو المذكور، وتولى العقد القاضى كمال الدين بن العديم، على مذهب أبى حنيفة-رضى الله عنه-وذلك لصغر سنّ الزوجة. ووقع العقد على صداق مبلغه مائة ألف درهم، ونثروا الذّهب والفضة، واللؤلؤ. وفى تلك الساعة وصلت البطاقة أن عسكر حلب أخذوا المعرات، فضربت البشائر بحلب. ثم سير الملك الناصر القاضى كمال الدين بن العديم رسولا إلى غياث الدين صاحب الروم، وكتب على يده توقيعا أنه قد أوهبه الرّها وأعمالها، وسروج وأعمالها، وملكها له تمليكا صحيحا شرعيا، وأشهد عليه فيه بذلك. وهذان البلدان لم يكونا تحت أمره ولا فى سلطانه، وإنما كانا فى مملكة الملك الصالح. فلما بلغ الملك الصالح ذلك صعب عليه، وحصل التنافس فى ذلك.
وفيها نزل الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وفيها الملك الصّالح، وحاصره، ولم يظفر بطائل. وسيّر الملك الصالح القاضى بدر الدين يوسف ابن الحسن إلى الخوارزمية، يستدعيهم إليه ويسترضيهم، وضمن لهم القاضى عن الملك الصالح كل ما يريدون منه، وأقطعهم البلاد، من جملتها حرّان والرّها وسروج، فعادت الخوارزمية إلى خدمته. فلما بلغ بدر الدين لؤلؤ ذلك من رجوع الخوارزمية إلى خدمة الملك الصّالح، هرب إلى الموصل، فتبعوه وكسروه كسرة شنيعة. ثم جهز لهم صاحب الروم جيشا كثيفا، فالتقوا معه أيضا، وكسروه، واستقام ملك الملك الصّالح بهم، وعظم شأنه، وخشيته الملوك.
وفيها خطب للسّلطان غياث الدين صاحب الروم بحلب، مع الناصر، وضرب اسمه على الدرهم والدينار مع اسم الملك الناصر.
وفيها حصل الاتفاق بين الملك الجواد صاحب دمشق والملك الصالح صاحب الشرق، بالمقايضة: دمشق بسنجار وعانة. وسبب ذلك أن الملك الجواد ضاق ذرعه وعجز عن القيام بمملكة الشام.
قال أبو المظفر: قال الجواد: «أنا إيش أعمل بالملك؟ باز وكلب عندى خير من ملك الأرض» . وكان أسد الدين قد جاء إلى دمشق، وأقام بها، وقتل عماد الدين ابن الشيخ بقلعة دمشق. وانحصر منه الجواد انحصارا عظيما. وكان الجواد يظهر أنه نائب العادل صاحب مصر. فلما قتل ابن الشيخ-فى حديث طويل السّبب- اختشى الجواد على نفسه من أسد الدين الملك المجاهد صاحب حمص، فخرج الجواد من دمشق بحجة الصيد، وضرب فى البرية، وسيّر كاتب الملك الصّالح نجم الدين أيوب، وسأله على المقايضة. وعلم صاحب حمص بذلك، فرحل من دمشق، ودخل حمص. وكان فى قلب الملك الصّالح منه قلوب وحقائد دفينة، لما جرى منه فى حق أبيه الكامل.
ودخل الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دمشق فى العشر الأول من شهر جمادى الآخرة، والملك الجواد حامل الغاشية بين يديه. ثم حملها الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماة. واتفق أن سنجق الملك الصّالح انكسر عند باب القلعة، فتطيّرت الناس من ذلك. وكان فألا لما ناله الملك الصّالح بعد ذلك من تغلب إسماعيل الملك الصالح على دمشق، واعتقال الملك الصالح بالكرك، حتى فرّج الله عز وجل عنه، وملك الأرض، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.
قال أبو المظفر-رحمه الله: ونزل الملك الصالح بالقلعة، ونزل الملك الجواد دار فرخشاه. ثم إن الجواد ندم على ذلك، فاستدعى المقدمين والجند، واستحلفهم.
وجمع الملك الصّالح أصحابه عنده بالقلعة، وأراد أن يحرق دار فرخشاه، فدخل جمال الدين [على بن] جرير فى الصلح بينهما، وخرج الجواد إلى النّيرب.
واجتمع الخلق على باب النصر يدعون على الجواد ويسبونه، ويشتمونه فى وجهه.
وسبب ذلك أنه كان سلّط عليهم خادما يقال له الناصح، فأخذ أموال الناس باليد، وصادرهم، وضربهم بالسياط، وعلّقهم بأرجلهم، واستخرج منهم ستمائة ألف درهم.
فلمّا خرج الجواد من دمشق وقف الناس للملك الصّالح، فسيّر إليه يقول له:
«ردّ على الناس أموالهم» ، فلم يلتفت لذلك. ومات والأموال فى ذمته.
وكان قبل ذلك-وقبل المقايضة-قد قبض الجواد على صفى الدين بن مرزوق وأخذ منه أربع مائة ألف دينار، واعتقله فى قلعة دمشق، فأقام ثلاث سنين.
حكى الشيخ إبراهيم المرزوقى قال: لما توفى السلطان الملك الكامل، وتولى الملك الجواد، وعاد لا يفعل شيئا إلا برأى الملك المجاهد صاحب حمص، استشعر صفى الدين بن مرزوق من الملك المجاهد أنه قاتله، لما كان بينهما من العداوة لما استوزره الأشرف، فصنع صفى الدين تابوت خشب، وترك فيه جواهر عظيمة، ولؤلؤا وفصوصا وياقوتا، لهم صورة كبيرة، وأظهر أن إحدى سراريه قد ماتت، وهى عزيزة عنده، وأنه يريد دفنها فى داره التى داخل مدرسة نور الدين الشهيد، بالقرب من الخواصين، التى تعرف اليوم بالنجيبة الشافعية. وفيها قبة، ولها شباك إلى الطريق.
ثم أطلع التابوت على رقاب غلمانه إلى الجامع، وحضرت كبار دمشق، وصلوا على الميتة التى زعم أنها فى ذلك التابوت، وعمل العزاء والمآتم. وانفصل الحال، وعاد المقرئ يتردد للقراءة على ذلك القبر الذى فيه التابوت. وسلم الصفى مفتاح القبة للشيخ إبراهيم المرزوقى-ناقل هذا الحديث-ثم مسك الصفى بعد ذلك بأشهر يسيرة، وأخذوا منه ما ذكرناه، واحتمل أمورا كثيرة، ولم يعترف بذلك التابوت، واعتقل بقلعة دمشق. فلما مضى على ذلك قليل، اختصم خادم كبير للصفى مع خادم صغير،
فضرب الكبير الصغير، فتوجه لما حمله حنقه إلى القلعة، وقال:«معى نصيحة» .
فدخلوا به إلى الجواد وأسد الدين الملك المجاهد، وأخبرهما بخبر التابوت. فبعثوا القاضى، والشهود، وأمير جاندار، وأستادار، وأخرجوا التابوت، وأحضروه بين أيديهم بختمه، ففتحوه، فطلع منه شئ يبهر العقول، من جواهره ولآليه وفصوصه، فأحضروا الجوهريين فقوموه بمائتى ألف دينار وستين ألف دينار. وكان قد أحضروا الصفى قبل ذلك، وحلف برأسيهما أنه لم يكن بقى له موجود. فلما طلع هذا التابوت، سلمه الجواد للملك المجاهد أسد الدين، وحكّمه فى دمه، فنفذه إلى حمص.
وفيها انقطعت الخطبة باسم الملك العادل صاحب مصر من دمشق، واستقرت باسم الملك الصالح نجم الدين أيوب. ثم وقع الصلح بين الملك الصالح وبين أسد الدين الملك المجاهد صاحب حمص، وحضر إلى خدمته بدمشق، وحضر الملك المظفر أيضا صاحب حماة.
وفيها توجه الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر، واتفق مع الملك العادل على الملك الصالح. ثم خرجت السنة.