الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سبب تغلب التتار على ملك ألطن خان
وما كان من حيل الحروب
قال سليمان بن عبد الحق الأذربيجانى: فلما كان فى سنين عشر العشرين وستمائة خرج كمش خان بن ألطن خان على عادته إلى الصيد، ووصل إلى منازل التتار، وتلقوه كعادتهم. وركب كمش خان وعلى يده طغريل، وقدّامه فى الخدمة بيشخان ابن جكز خان، وعلى يده أيضا طغريل. فأطلقا جميعا فاشتبك الطائران فى طير واحد المسمى قو، فسبق إليهما بيشخان بن جكز خان، واقتلع طير كمش خان، وضرب به الأرض قتله، وذبح لطيره، وأشبعه على صيده. فلما نظر كمش خان إلى ما حلّ بطيره رجع إلى منزلته غضبانا، وأمر أن تشال خراكيه، وتوجه إلى بلاده، وهو قد كاد ينشق غضبا. فلم يلتفت إليه بيشخان، ولا عبأ به ولا ركب إليه، ولا استرضاه. وعاد إلى عند أبيه جكز خان، وأخبره بما جرى، فقال له:«لبئس ما فعلت. أما علمت أن هؤلاء أصحاب الدنيا وملوك الأرض؟ ويجب علينا مداراتهم كونهم الحكام علينا؛ ونحن تحت طاعتهم وعزب من عظمهم، وليكونن لنا ولهم شأن عظيم، وأرجو أن نكون المنصورين عليهم. فإنى رأيت فى منامى بارحتى ما يدلنى على ذلك، وهو كأنى على رأس قراطاغ، وقد مسكت الشمس بقرنيها، من شرقها إلى غربها، وقد سلمتها لكم، فانفلت من يدى ناحية المغرب» .
ثم إنه ركب من فوره ودار على إخوته وبنى عمه وعشائرهم، وسائر جنسيته، وجمعهم إليه، الكبار فيهم وزعمائهم، فكانوا عدة ثلثمائة وستون نفر. ففرح بعدتهم، وقال:«هذه العدة عدة سنة الدهر» . ثم إنه عرفهم صورة الحال، وما جرى
بين كمش خان وبيشخان ولده. ثم إنه جمع ثلثمائة وستين سهما وجعلها جرزة واحدة، وكان كل سهم من نفر منهم، وقال:«أيكم يكسر هذه؟» . فقالوا: «لا نطيق كسرها جملة» ، فقال:«نحن كذلك متى كنا مجتمعين لا يطيق أحد على كسرنا» . ثم رمى لكل أحد سهمه وأمره بكسره، فكسره كأسرع ما يكون. فقال:«ونحن كذلك أيضا إذا ما تفرقت كلمتنا كسرنا كهذه السهام» . فكان جكز خان أول من ضرب هذا المثل. ثم قال: «لكن لا بد لنا من رأس نرجع إليه، وإلى حكمه وتدبيره» .
فانتقوا من الثلثمائة وستين، سبعين نفرا، ثم انتقوا من السبعين ثلاثة عشر نفرا، ثم من الثلاثة عشر ثلاثة، فيهم جكزخان. ثم اجتمع رأيهم أن يصنعوا قربانا ويقربونه لتنكا خاتون، فمن خرج قربانه موكولا كان الرأس وصاحب الأمر، ومرجوعهم إليه. وكانوا يتخذون لعبة من لبد أبيض ويجعلونها فى خركاة ولها خادم يسمونه بخشى. وهو من نسل أولئك القوم الذين كانوا قد قدموا من أول زمان على ذلك الشخص الوحشى ألب قرا أرسلان بلجكى، المقدم ذكره. وهذه اللعبة كانت معبود أولئك القوم الذين هؤلاء التتار من عظمهم، القادمين التائهين حسبما سقناه.
ويسمون هذه اللعبة تنكا خاتون، ولهم فيها أحاديث عجيبة تخامر العقول، فأضربت عن جميع ذلك فإنه كفر عظيم، نعوذ بالله منه، ومن تصديقه.
قال سليمان: فصنعوا ثلاث قصع من ثريد، وصبروا إلى الليل، وقدموهم إلى اللعبة. ووقف البخشى يزمزم بلغتهم، والثلاث نفر على ركبهم جوك. فلما تهور
الليل، سمعوا من داخل الخركاه هدّة عظيمة، ودويا عظيما، وقعقعة كأجنحة طائر عظيم، وحسّ لم يعهدوا بمثله قط قبل ذلك اليوم، وقائل يقول بلسانهم، ما هذا صفة تفسيره:«جكزخان صاحب الزمان، وملك الأوان، ومخرب البلدان، وقاتل الشيوخ والولدان، فكونوا له أعوان، تكونوا فى أمان» . وبرزت قصعته مأكولة بكمالها إلى ناحية المشرق بكماله، وتبقى منها جنب إلى ناحية المغرب لم يؤكل. قال: فعند ذلك نهض القوم بأسرهم وأجلسوا جكزخان، وضربوا له جوك. فأمر عند ذلك أن يجتمعوا جميعهم من الرجال النافعة للحرب، فكان عدتهم أربعة آلاف رجل كالأسود فى قطع البخاتى عظم خلق. غير أنهم لم يكن لهم ما يلبسونه، ولا سلاح يقاتلون به، ولا خيلا يركبونها، إلا عدة ثلثمائة وستين فرس، منهم ثمانين فرس من نسل أصل فرس كان لجدهم تتارخان بيغو، صاحب الصبرغى. وكان لما يتردد إلى الجزائر التى فى تلك البحيرة، وجد فى جزيرة من بعض تلك الجزائر المحاذية للجبل قراطاغ، فرسا وحشيّا ذيله تسحب على الأرض، وعرفه يطل على ركبتيه، وهو يضرب الأرض بحوافره، فتقدح نارا. فاحتال عليه أن صنع له حفيرة أوقعه فيها.
ثم إنه أقام حولا كاملا يؤانسه ويطعمه ويسقيه حتى تأنّس به. ثم أطلعه من تلك الحفيرة، وأحضره إلى أهله. ثم أقام حولا ثانيا حتى ركبه. وكان هذا الفرس تسبق الريح، وتلحق عليه ما شاء من أصناف الوحوش، يقتل الأسود بحوافره ويديه، لا يصعب عليه وعرا ولا جبلا. إذا جاع يحفر الأرض بحافره ويأكل أصول الأشجار.
وإن لم يجد أكل الحصى، روثه أشد من الصخر قوة وصلابة. وكان لا يطيق يركبه غير تتارخان بيغو صاحبه. وكان اسم هذا الفرس أط أطن، أى فرس النار. فنسل عندهم فى ذلك الوقت الذى تجمعوا فيه ثمانين فرسا عن بنى تتارخان بيغو يتوارثونه كابرا عن كابر. قال سليمان: وقيل إن هذا الفرس كان يكلم صاحبه، ويفهم ما يأمر له به.
فلما اجتمعوا على كلمة واحدة، ونظرهم جكزخان، سرّ بهم. ثم إنه نفّذ إلى صاحبه الحداد الذى كان يتردد إليه بمدينة أيدرماق رجلا من دهاة قومه، وأمره أن يتجسس له أمور الملك ألطن خان، وما قد عزم عليه. فغاب أياما ثم رجع، فأخبره أن كمش خان لما رجع ووصل إلى أبيه عرّفه ما كان من بيشخان وإخراقه ناموس الملك، فعظم على ألطن خان، «وها هو ينفذ إليكم يلجيا-يعنى بريدا-يطلبكم إليه فلا تسمعوا، فإنكم إن أتيتم إليه لا يبقى على أحد منكم» . فلم يكن بعد ذلك إلا أيام قلائل وحضر إليهم يلجى فى سبع مائة فارس، يأمر جكزخان وسائر بنيه وكبار عشيرته بالقدوم إلى باب الملك ألطن خان، فأنزلهم وأكرمهم. فلما كان الليل نفذ لكل رجل رجلا من قومه، فقتلوهم عن بكرة أبيهم يد واحدة، فكان هذا أول دم أراقته التتار فى الدنيا.
ثم أخذوا خيولهم وعددهم وسلاحهم، وفرّق جميع ذلك على أعيان قومه. ثم أنفذ ذلك الرجل الجاسوس إلى الحداد المقدم ذكره، يكشف له ما يتجدد من أمور ألطن خان، فعاد وأخبره أن ألطن خان بلغه ما فعلتم بيلجيه، وقد جهز إليكم خمسين ألف مدرع، وأمرهم بأخذكم أشد أخذ. فعند ذلك جمع كبار قومه، وعرفهم ذلك، فقالوا:«كيف لنا بخمسين ألف لابس، بخيول وسلاح وعدد، ونحن كما ترانا؟» . فقال:
«لا بأس عليكم إذا نحن صاففناهم. فعند أول حملة انهزموا وتسلّقوا فى جبلكم هذا.
فأنتم تخبرون مسالكه ووعوره، فإنهم لا يتبعونكم فيه، لما فى أنفسهم منه ومن دغله وكثرة وحوشه. ثم إن نحن لم نكن على بالهم بشئ، وهم أهل لذة وأكل وشرب. وينظروا إلى هذا المكان وطينته، وهذه الأرض وحسنها، ولذة هوائها، ونضارة زهرها. وهم أهل لذة، ولا يفارقهم الخمر. فإنهم سينزلون بها لا محالة، لقلة اكتراثهم بنا، فيأكلون ويشربون، ويمرحون إلى الليل، فينامون سكرى، فحينئذ ننزل عليهم، فلا نبقى منهم باقية». قال سليمان: فكان الأمر كما قدر، ولا أخرم عليه فى حسابه القضاء والقدر، فقتلوهم عن آخرهم، واستعانوا بخيولهم
وسلاحهم وملابسهم، وباتوا فقراء فأصبحوا أغنياء، وعاد لكل نفر منهم جملة من الخيول والعدد والسلاح. ثم اجتمع إليهم من كان بعيدا منهم، ونازحا عنهم، ومن لم يكن قد وافقهم أولا، ومن فقير وكساب ومحتاج، فأعرضهم جكزخان فعادوا فى عشرين ألف فارس شديد، كأنه قطعة من جبل بقلب أصلب من الحديد.
فلما عاينهم جكزخان تعاظم سروره، ونفّذ إلى ذلك الحداد جملة من ما كسب من ذلك العسكر، وهو يستخبره عن ما يتجدد عند ألطن خان. فعاد إليه الجواب يخبره أن قد توجه إليهم كمش خان بنفسه، ابن ألطن خان، فى مائتى ألف عنان، «وحلف بقراطاغ أنه لا يبقى من عظمكم أحدا، لا من النساء ولا من الرجال.
والمتوجهون إليكم أعظم الجيش، فإنهم من عظم «أى أطام» الكبير. وقد تقرر أمرهم إذا هم أخذوكم أن يقطعوا رءوسكم، ويجعلوها على عيدانهم، ويدخلون المدن كذلك».
قال: فجمع جكزخان كبار قومه، وعرفهم ذلك، فقالوا:«فما تشير به علينا؟» فقال: «إن القوم لا يعلمون إن نحن قد عدنا فى هذا المدد، وظنهم أن نحن على ما كانوا يعهدونه. والرأى أن نفترق عليهم أربع فرق، كل خمسة آلاف يقدمهم كبير منكم.
وتكون كل فرقة فى جهة من الجهات الأربع. ونقطع من هذه الأعواد ونغرسها فى سفح هذا الجبل، ونلبسها ما فضل عنا من هذه العدد كهيئة الرجال، فما يشكون أنهم رجال. ثم نخرج عليهم الكمناء من أربع جهات، فلن يتمالكوا أن يولوا منهزمين، فنضع فيهم السيف، ونجتهد على أن لا يفلت منهم أحد، ونلبس ما عليهم، ونأخذ رءوسهم على رماحنا، ونسوق إلى مدنهم فيرونا، فلم يشكوا إن نحن قومهم وقد ظفروا بنا. فيكون ذلك سبب الفتح والملك».
قال سليمان: فكان الأمر كما ذكر، ولا أخرم عليه الحساب دقة. ودخل مدينة أيدرماق فى عدته، وذبح ألطن خان على سريره بيده، وقتل سائر من كان من عظمه، وأخرج قومه وحاشيته وجنده، وجعلهم فلاحين فى تلك القرى، يزرعون ويقومون بالخراج له. وجلس جكز خان على سرير الملك، ولبس التاج، وفرّق بنيه فى سائر أقطار الأرض.
انتهى ما استنسخته من الكتاب التركى المسمى «أى أطابتكى» . ونحن نذيل عليه مما ذكروه أرباب التواريخ؛ مثل ابن الأثير صاحب التاريخ الكبير الجامع، ومثل ابن واصل صاحب تاريخ بغداد، وغيرهما، إن شاء الله تعالى.
قال ابن واصل: إن أول إقليم ملكوه التتار بلاد الصين، ولم يقل للمدن أسماء.
قال: وملكهم يومئذ جكزخان، ولم يذكر له نسبا. ثم قال: ومشوا من الصين الأعلى إلى الصين الثانى، ثم مشوا إلى تركستان، فحاصروا مدنها وملكوها وقتلوا كل من كان بها. ثم مشوا إلى كاشغر وبلاشغر، وهاتين مدينتين عظيمتين أكبر أقاليم الصين، فقتلوا كل من كان بها من الترك من بنى يافث بن نوح عليه السلام، ونهبوا أموالهم، ونفذوا من جهتهم جماعة من أصحابهم فى زىّ تجار يبيعون ما معهم من تلك الأموال المكتسبة، ويشتروا بها لهم قماش وسلاح من أطراف بلاد العجم. وكان هؤلاء القوم لا يعرفون القماش ولا الملبوس، ولا شئ من زينة الدنيا، إلا أنهم شبه الوحوش النافرة فى الأرض. ولا يعرفون غير جلود الوحش، مثل القندس والسمور والقاقل، وما أشبه ذلك. وكذلك جميع تلك الأمم الذين من وراء النهر خلف جيحون. قال صاحب التاريخ: فلما قدم أولئك الأقوام إلى بلد يقال لها أتراب، وهى آخر ولاية مملكة السلطان علاء الدين خوارزم شاه
من جانب المشرق من الأرض. وكان بها نائب للسلطان علاء الدين، فعوّقهم عنده، وسيّر إلى السلطان يقول: «إن قوما قدموا علينا لا نعرفهم قبل ذلك، ومعهم أموالا جمة، من أصناف كيت وكيت، يقصدون بيعه ومشترى قماش وسلاح.
فما ترسم فى أمرهم؟». فكتب إليه السلطان يقول: «إذا أتاك كتابى فاضرب رقابهم، ولا تبقى منهم غير رجل واحد، ليعود يخبّر قومه. وخذ جميع ما معهم ونفذه إلينا، لينتهوا عن التجاسر والعبور إلى البلاد» . ففعل ذلك، وعاد ذلك الرجل الذى تبقى منهم إلى جكز خان، وقد كسر الخطا أيضا وأخذ بلادهم. وكان بين بلاد الخطا وبين بلاد الإسلام سدّا، فلما ملكت التتار بلاد الخطا قوى أمرهم، وعادوا يغارون على أطراف ممالك السلطان علاء الدين. فلما وصل ذلك الرجل إلى جكزخان وأخبره بما جرى على رفقته، أرسل جكزخان جواسيسا من عنده، لينظروا مملكة السلطان علاء الدين خوارزم شاه وتقدير جيشه. وكذلك السلطان علاء الدين نفّذ عيونا، تكشف له أخبار هؤلاء القوم. فعادوا جواسيس جكزخان إليه، وعرفوه أن عساكره متفرقة، وإذا اجتمعوا يبلغون أربع مائة ألف. وعادوا عيون السلطان علاء الدين إليه وخبروه أن هؤلاء القوم خلق عظيمة، لا يعلم عددهم إلاّ الله عز وجل، وأنهم من أصبر الناس على الشقاء والجوع والبلاء، وأن «نحن لم نر حالا أزرى من حالهم، ولا أجوع من أنفسهم. وهم مع ذلك إذا قيل لهم أمر وقفوا عنده، وهم راضين بما هم فيه» . فعند ذلك ندم السلطان علاء الدين على قتل تجارهم، ووقع فى فكرة عظيمة.
قال ابن الأثير فى تاريخه: كان سبب خروج التتار ودخولهم بلاد الإسلام غير هذا، مما لم يكن يودع بطون الأوراق.