الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما هو شئ وضعوه الحكماء المتفلسفين، يصيدون به عقول من يخدموه من الملوك الراغبين فى طول الحياة الدنياوية، مما يؤيد زعمهم أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة، فمن مات قبل ذلك كان من وجوه التفريط بنفسه، مع شروط وضعوها.
ونحن نعوذ بالله من زعمهم، وزخارف أقوالهم. ونعلم ونتحقق أن العمر محتوم، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، فهذا هو الاعتقاد الصحيح، والعقل الرجيح.
وها أنا أضع وأثبت-فى هذا الفصل-جميع ما استنسخته من ذلك الكتاب، لضرورة بدء خلق هؤلاء القوم التتار بزعمهم. وليظهر أيضا نقصان عقولهم، فيما وضعوه من خرافاتهم.
ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى
هذا كتاب عنى بحلّه من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، كما عنى بحله من اللغة التركية إلى اللغة الفارسية، عبد الله المتوكل على ربه الغفور المسامح، جبريل ابن بختيشوع المتطبب، فى سنة إحدى عشرة ومائتين للهجرة النبوية المحمدية، على صاحبها السلام. وتركت فيه ألفاظا بحالها باللسان التركى، كما تركها الذى حلها من التركية إلى الفارسية، وهو أبو مسلم عبد الرحمن صاحب الدعوة العباسية. قال جبريل: ووصل إلىّ هذا الكتاب من ذخائر أبى مسلم المذكور. وذكر أنه من كتب جده برزجمهير بن البختكان الفارسى. وكان أبو مسلم ينتسب إلى برزجمهير المذكور، وليس ببعيد فيما ذكره، لما كان عليه من العقل الوافر، وحسن السياسة والتدبير، مع ما اجتمع فيه من فنون العلم. وقتله المنصور لما خيف من دهائه وتدبيره.
وسمعت المأمون-رضى الله عنه-يقول: الملوك ثلاث الذين ساسوا البلاد وأتقنوا الأمور وأقلبوا الدول؛ وهم الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم. ثم إن جبريل أطنب فى ذكر أبى مسلم إطنابا كثيرا، أضربت عنه ولم أنسخه، إذ ليس فيه لنا غرض.
ثم قال بعد ذلك: إن الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته خلق جبلا عظيما آخر
الصين الأعلى من جهة مشرق الشمس، سمت علوه فى الجو أربع فراسخ، صاعدا فى فلك الهوى، حجرا أسودا أصمّا، ليس به نبات. وأن من حكمة الله جل وعزّ، التى لا تدرك لها غاية، ولا يحصر لها نهاية، جعله حاجزا للبحر الأسود المحيط، وحاجزا لعين الشمس فى أول طلوعها، فإنها تطلع من ذلك البحر من غامض علمه، الذى لا يعلمه سواه، فيحجبها هذا الجبل أن تدرك الأرض فى أول طلوعها، ويمنع حرارتها فى مبتدأ طلوعها؛ لطف من الله تعالى، وتدبير من الحكمة الإلهية.
فلو أدركت الأرض فى أول مبتدأ إشراقها، ما تركت عليها من دابة، ولا نبتت فيها خضراء. وليس تدرك الأرض إلا بعد ما تصير فى اثنى عشر دقيقة من سمت رأس المشرق، فعند ذلك تخف حرارتها، لارتفاعها، ويدرك بها الانتفاع. واسم هذا الجبل باللغة التركية قراطاغ، تفسير ذلك الجبل الأسود. ثم إن هذا الجبل تتفجر منه-من سفحه الموازى إلى جهة المغرب-عيون ماء عذبة، أحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، وأعطر من المسك. تفرش تلك العيون فى بحيرة مسافة دورها سبعون فرسخا كاملا، يجرى منها نهر فى طول سفح ذلك الجبل، مسافة مائة وثمانين فرسخا. قد بنى فى وسط هذا المجرى مدينتان عظيمتان ذاتا أسوار دائرة، بحجارة سود، ونحتا ذكر فى أنثى، وأنثى فى ذكر، لا تكاد تبين مداخله إلا للمتأمل الحاذق. دور كل سور سبعة عشر فرسخا كاملا، لكل مدينة أربعون بابا من الحديد الصينى، كالفضة المحلية. على كل باب برج مشيد من تلك البناية. وذلك النهر يجرى فى تلك المدينتين. وبين المدينة والمدينة مسافة سبع عشر فراسخ. وقد صنع ذلك النهر بمقاسم قد رتبت، وتدبير قد أحكم، حتى ليس يخلو منه منزل من منازل تلك المدن. ثم يخرج وينقسم عدة أنهر إلى سائر بقاع تلك الأراضى، وعليه
ضياع ومزدرعات وأشجار، ذات ثمار عجيبة، وفواكه لذيذة، ما لا يعلمها إلا الله تعالى. ويعمّ ذلك النهر أراضى ذات أعمال، وعمائر تقدير سنة طول، فى سنة عرض، عليها أمم وخلق، ذوو صور مختلفة، يرجعون جميعهم إلى سلطان تلك المدينتين.
وهاتان المدينتان تسميان باللغة التركية أيدرماق وأشرماق. ويقال لكل من يملكهما من نسل واحد وعظم واحد باللغة التركية ألطن خان، تفسيره ملك الذهب. ولم يكن للقوم عدو يخشونه، ولا منازع يخافونه، أهل عيش خضل، ولذة وفكاهة، وأكل وشرب وتناسل، من أحسن خلق الله وجوها، وأرطبهم أبدانا، وأنعمهم عيشا. يأكلون من أطيب اللحومات، وألذ الفواكه، لتلك الأراضى الحسنة، والمراعى اللذيذة، ذات الحشائش المختلفة، النابتة فى تلك الأماكن الخصبة، الصحيحة الهواء، العذبة الماء. فليس يرى فيهم مرض من الأمراض، ولا عاهة من العاهات، الفرح غالب على قلوبهم، حتى إذا ما مات عندهم الميت لا يعرفون البكاء عليه ولا الحزن، طوال الأعمار. لا يكاد الشخص منهم يموت إلا بعد المائة وما فوقها.
قال جبريل: ولهم فى ذلك معنى دقيقا، جل بحثنا عليه، وذلك أن صاحب هذا الكتاب برزجمهير بن البختكان قال-وإن لم يكن ذلك موافقا للشرع المطهر، فنحن إنما نذكره للتعجب لا للتصديق، فما على ناقل خبر من عتب-قال برزجمهير:
إن أول خلق هؤلاء القوم المذكورين أن بهذا الجبل المسمّى بقراطاغ مغار، مسافة علوها فيه من أسفله إلى حين يرقى إليها الراجل الشبق-بعد المشقة العظيمة والتعب والكلال-ثلاثة أيام، بطريق وعراء كثيرة التعاريج، متسلقة فى الجو. وأن
على فم تلك المغار باب عظيم من الذهب الأحمر، مرصّع بأنواع الجواهر العظيمة القدر، وله سدنة وخدام. وهذه المغار فهى معبود أهل تلك الديار، فإذا أراد الإنسان منهم يحلف، يقول:«أيّما قراطاغ» ، تفسير ذلك «وحق الجبل الأسود» . وإشارته إلى تلك المغار.
قال جبريل: قال برزجمهير: وأصل دعواهم فيه. قلت: ونحن لا نصدق هذه الدعوى الضعيفة، وإنما نورد ما قالوه، ونرد عليهم من الشرع والعقل الذى احتجاجهم به.
قال: إنه لما كان أول زمان، جرّت السيول من الأمطار ماء إلى تلك المغار، وسحّب ذلك الماء بقوته ترابا من مجر السيول، فاحتبس فى تلك المغار فى أخدود شبيه بقالب هذه الخلقة الآدمية. وكانت الشمس فى ذلك الوقت فى برج أفنون-على ما نقول نحن برج السرطان-فقصده بذلك أن الشمس كانت فى أوجها وقوة حرارتها، بما يقتضيه عرض أرضهم، إذ كل إقليم خص بعرض وسمت. وكانت تلك الصبابة التى تحدرت من تلك السيول إلى المغار، قد تجمعت فى ذلك الأخدود. فلما استقرت، طبختها الشمس، فكانت المغار بمنزلة جوف المرأة. والمستقر فى ذلك الأخدود عنصران: الماء والتراب، وطبختهما الشمس فى أوجها فكانت كعنصر النار.
واعتدلت له الرياح فى مدة تسعة أشهر، وتكملت الأربع استقصاءات. فلما كانت الشمس ببرج حيتان-وهو كقولنا برج الحمل-فقصده أنه مضى تسعة أشهر، فإن كل ثلاثة أشهر فصل. فلما كان ابتداء أمره، والشمس فى أوجها، فيكون أول الصيف. فلما مضت التسعة أشهر، مضى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء، وشرعت الشمس للاعتدال. فلما وافق إكمال تلك المصاية وتعفينها وإنضاج طبخها عند اعتدال الشمس استحق الكمال والخروج، فخرج من ذلك الأخدود صفة هذا الحيوان الناطق. قال جبريل: وهذا القول تصححه أصحاب القول بالتعافين،
ويحتج فيه أن لكل ما عفن فى استحقاقه نتج منه روح حيوانى وذلك بالضرورة، كالدود من الخل ومن الجبن، وكالحشرات من الأرض. وربما عفنت أشياء، وخرجت منها حيوانات مختلفة الأشكال. قال: فسمّى ذلك الشخص الذى خرج من تلك المغار باللغة التركية «أى أطام» معناه «الأب القمر» . والترك يدعون أنهم أحق به من الفرس، والفرس يدعون أنّهم أحق به من الترك. واسمه عند الفرس كهومرت معناه بالفارسية «أب الآباء» .
قلت: ونحن نعوذ بالله تعالى من تصديق دعوى الطائفتين، ونشهد أن الله خالق آدم من طين، بقدرته التى لا يقدر عليها سواه، بما أتى به الرسول الصادق، الذى بالحق -عن الحق-ناطق. وأن الله تعالى واجد الوجود من العدم، وهو على كل شئ قدير. وأما دعوى هؤلاء القوم على ما ذكره صاحب هذا الكتاب، فإنها دعوى سخيفة جدا، لا يقبلها الشرع ولا العقل جملة كافية.
قال جبريل: قال برزجمهير: فنزل ذلك الشخص المسمى «أى أطام» إلى تلك الأرض الطيبة الهواء، العذبة الماء، فأقام بها أربعين سنة، وهو متزايد القوة والنشاط، والنهضة فى سائر أعضائه وتركيبه. قال: ثم إن السيول اجتمعت أيضا، ونزلت، وتحصلت تلك المصاية بالمثال الأول الذى تقدم ذكره. لكن كانت الشمس ببرج كينان-معناه أنه بالتقدير والقياس كقولنا برج السنبلة-فأدرك الطبخ والشمس فى أول هبوطها، وتكامل نضجها والشمس قد شرقت على أوجها، فخرجت أنثى، هذا بقوله فى كلام طويل هذا تلخيصه. ولو أمكننى تلخيص الجميع لكان أوفق، لكن ألجأت الضرورة لبيان ذكر أول خلق التتار حسبما يأتى،
فإننى لم أجد أحدا ذكر أصلهم الأول، وإنما سائر أرباب التواريخ ابتدأوا بذكر جكزخان تمرجى، ولم يتعدونه. ووجدت فى هذا الكتاب بدء شأنهم، فأحببت أن أنبه على ذلك. قال جبريل: فخرجت أنثى لعدم إدراكها أول الأوج، فنقصت عن التركيب الذكرى لعدم الحرارة، فسميت باللغة التركية «أى وا» معنى ذلك «وجه القمر» . فتزاوجا وتناسلا، فأقام «أى أطام» بعد نزول «أى وا» أربعين سنة أخرى واقفا عن الزيادة والنقصان. ثم شرع فى النقص، فأقام أربعين سنة متناقص الأحوال. فلما كملت له مائة سنة وعشرون سنة، هلك. وقد صار له من النسل أربعين ذكر وأنثى، فتزاوجوا ببعضهم البعض. وكان أكبر الأولاد لما هلك «أى أطام» أعاده إلى المغار، ووضعه فى ذلك الأخدود، رجاء أن يقوم ثانيا.
فلما هلكت أمه «أى وا» بعد أبيه بأربعين سنة، طلع بها إلى أبيه، فوجده قد تمزق، فوضعها فوقه، وطمرهما وتركهما. وجعل على باب المغار ذلك الباب الذهب، وأقام عليه سدنة يحفظونه.
قال جبريل بن بختيشوع: فمن هاهنا أخذت الحكماء الأطباء أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة. والعلة فى ذلك أن هذا الشخص لما كان ابتداؤه، والشمس فى أوجها، اقتضى الزيادة فى ذلك الفصل بكماله. وذلك أن السنة ثلثمائة وستين يوما، والخمسة أيام وزائدها لا يعتد به فى حساب السنة الشمسية. وفى ذلك بحث دقيق، وحديث طويل أضربت عنه ولم أنسخه.
قال جبريل: فإذا حسبت هذه الثلثمائة وستين يوما على منازل القمر، وهى الثمانية وعشرين منزلة التى يحلها القمر فى طول السنة، كانت كل منزلة تخص بعدة أيام،
وكانت كل ثلاثة أيام إلا قليل بنظير سنة من العمر الطبيعى، وهو المائة وعشرون سنة. فإذا حسبت السنة اثنى عشر شهرا، كان استكمال السنة باستكمال مائة وعشرين سنة. فالزيادة فيها كون أن الشمس كانت فى أول خروجه إلى فسيح الفضاء بنقطة الحمل، وهى فى صعودها، فاقتضى الحال الزيادة فى طول مدة ذلك الفصل بكماله. فلما صارت الشمس بنقطة السرطان، وبلغت منتهى الزيادة فى صعودها، وقفت فى ذلك الفصل بكماله. فلما عادت الشمس بنقطة الميزان، وتساوت، ورجعت إلى الهبوط، اقتضى ذلك الحال النقصان. فلما انتهت إلى الحضيض اقتضى الحال التلاف والهلاك، إذ الحمل لم يكمل غير تسعة أشهر، فمنتهاه آخر ما الشمس فى برج الجدى، وهو آخر الحضيض الشمسى. والعمر الطبيعى إنما هو تسعون سنة، وإنما جعلوه مائة وعشرون سنة للغاية فى النهاية. قال جبريل: وأقوى الأدلة على ما ذكرناه أن سائر المخلوقات ذوات الأرواح الجائلة فى الأجساد المركبة، فى فصل الربيع يحصل لها الانتعاش وقوة الحركة والنهضة وتحريك الشهوة والتنصل من الأمراض التى حدثت فى فصل الخريف، ولم تنصل فى فصل الشتاء كون أن الشمس فى هبوطها.
قال جبريل: فإن قال قائل رأينا من يعيش أكثر من المائة وعشرين، ورأينا من يموت دون ذلك من غير سبب عارض، فالجواب عن ذلك، قال برزجمهر: الحجة لنا فى ذلك خلقة هذا الشخص المدعو «أى أطام» فإنه إذا اتفق أن المولود يولد موافقا لمبروز هذا الشخص فى الأوقات التى تكون فيها من ابتدائه إلى انتهائه، وتكون أعضاؤه مناسبة لتلك الأعضاء المختصة بذلك الشخص، لاتساع جولان الروح فى متسع التركيب، وسلم من أن تغلب عليه طبيعة على طبيعة، وخلص من آفات الدنيا وعوارضها، حكمنا له أنه يعيش ما قدرناه له من العمر الطبيعى. ثم إنه ذكر هاهنا مقادير الأعضاء فى التركيب من الرأس إلى القدم، مما أضربت عنه لطول شرحه
وهذيانه. ثم قال: فإن زاد المولود فى خلقه عن هذا التركيب، واتفقت له هذه الأسباب المشترطة كلها، زاد عمره على العمر الطبيعى بمقدار تلك الزيادة فى تركيبه، وإن نقص عن خلقه فى هذا التركيب نقص عمره بمقدار ذلك النقص. قال جبريل: ولذلك أن الطبيب الماهر والحكيم الحاذق إذا رأى طفلا كان أو غيره كاملا فى خلقه التركيب الأصلى فى سائر أعضائه، علم مقدار جولان الروح فى ذلك التركيب، وراعى مصالح الطبائع الأربع فى الأغذية، فأمكن أن يعيش ما قدر له، بشرط سلامته من الآفات العارضة، فيجب على الطبيب الحاذق اللبيب الفطن إذا كان بخدمة ملك أو رئيس أن ينظر إلى أعضائه وتركيبه، ويلاطف ما نقص منها، ويحفظ نقصها من أى الطبائع هى، فيكون اعتماده دائبا فى حفظ صحة تلك الطبيعة التى من جهتها نقصت الحملة عن الاعتدال. ثم تكلم كلاما كثيرا جدا، أطنب فيه إطنابا كثيرا، أضربت عنه. والذى تبين للعبد من هذا القول أن الأطباء وضعوا ذلك فخّا ليصيدوا به عقول الكبار من العالم، وأن لا يكون لهم غنى عن طبيب حاذق يلازم مجالسهم لحفظ الصحة من أمزجتهم. وليس نشك أن الله عز وجل خلق الداء والدواء، وإنما قولهم فى معانى التركيب وحياة العمر الطبيعى فمحال لا يصدقه مؤمن يؤمن بالله تعالى، وبما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم. والصحيح قول الإمام على-كرم الله وجهه-:
قال جبريل: ثم إن ذلك النسل الذى من ذلك الشخص كثر وتزايد، وبغى بعض على بعض، فأجمعوا أمرهم على أن يقيموا من بينهم رأسا يرجعون إلى كلمته، ويأخذ القصاص من بعضهم لبعض، فاتفق رأيهم على أن يكون الأكبر من ولد
«أى أطام» ، فكان أول من جلس على سرير الملك من هؤلاء القوم من ولد «أى أطام» الأكبر منهم، تسمى باللغة التركية «أى أطام كشكرى» معناه «الأب القمر الصغير» . فأقام فى الملك ثمانين سنة، وهو الذى ابتنى تلك المدينتين العظيمتين-أيدرماق وأيشرماق-بناهما فى مدة أربعين سنة. ثم هلك، فقام بالأمر ولده، وكان يسمى بلغتهم «كشكرى بلجكى» معناه «فرخ كشكرى» . فلما استقر له الأمر كان أبوه قد أوصاه أن يجعل رمته فى تمثال من ذهب مجوف، ويجلسه على كرسى فى بيت يصنعه له كالمعبد، فصنع له ذلك، وأحكم له البيت الذى جعله فيه، وأوقد عليه القناديل الذهب بالزيت المحكم الذى لا ينطفئ، لا ليل ولا نهار. وأقام له سدنة يخدمونه. وعاد ذلك مشهدا لهم وعيدا، يجتمعون إليه فى يوم تاريخ وفاة ذلك الملك، فيسجدون له، ويدعون عنده، ويقربون إليه من أعز أموالهم ومواشيهم.
وسمّى بعد ذلك كل من ملك من نسل ذلك الملك من ذلك الحين «ألطن خان» تفسيره «ملك الذهب» . وأقاموا على ذلك ما شاء الله تعالى من الدهور، آلاف من السنين والقرون، وهم فى ألذ عيش وأهناه، لا يعرفون لهم عدوا ولا حربا ولا قتالا. انتهى كلام جبريل إلى هاهنا.
قلت: فأبى الدهر إلا أن يفرق شملهم، ويعيدهم عبيدا بعد الملك، وأذلاء بعد العز، كعادة الدهر وغدره، والزمان وشره. فكان موجب ذلك ما ذكره سليمان بن عبد الحق بن البهلوان الأذربيجانى، مما ذيله على كلام جبريل بن بختيشوع، وضمنه هذا الكتاب المذكور. قال سليمان بن عبد الحق: إنه كان بهذا الجبل المسمى «قراطاغ» عند منبع تلك البحيرة، وحوشا شدادا، سودا، كالبخاتى عظما، لا يطيق بشر أن يقرب تلك الأرض بما رحبت، لكثرة وحوشها، وخبث أسودها.
ولم يكن بها ساكن من الإنس، مع كثرة خيرها، وسعة فضائها، وبهجة أقطارها، وعذوبة مائها، وصحة هوائها، تشتمل تلك البحيرة على عدة جزائر خضرة نضرة، كثيرة الأشجار والنبات، يأوى إليها سائر أصناف الطير من سائر أقطار الأرض، يبيض ويحضن ويفقس، لا تجد من يشوش عليهم، ولا من ينفره عن وكره.
وكان أكثر ذلك طيرا، الجنس الذى يقال له باللغة التركية «قو» وهو «التم» .
فاتفق أن بجوار هذه الأرض-بعد مسافة بعيدة-بلاد يقال لها تبّت، وهى التى بها الغزال، الذى فى صراره المسك المعروف بالمسك التبتى، وهو أجود من المسك الصينى بطبقات، لا يحمل إلا إلى الملوك فى البر دون البحر، فإن حمله فى البحر مما يقطع ريحه، وله حديث طويل، أضربت عنه لذلك.
قال سليمان الأذربيجانى: فخرجت امرأة من بلاد تبّت، وهى حامل، إلى بعض تلك الأودية بتلك الأرض تحطب، فأدركها المخاض، فوضعت ولدا ذكرا كأنه قطعة صخر، فنهضت تأتيه بشئ من ذلك الحشيش تستره به، فاختطفه نسر، وحلّق به فى الجو، فلم يحطّه إلا بسفح ذلك الجبل المسمى بقراطاغ. فسقط-لما يريده الله عز وجل-فى غيضة قد ولدت فيها فى تلك الساعة لبؤة، فصار الطفل عند شبلها الذى وضعته، لأمر أراده مدبّر الأمور، ومقدّر الكائنات، الفعّال لما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ثم أراد النسر حمله، فنظر إلى اللبؤة وهى قد ضمته إلى شبلها، وظنت أنها وضعته مع شبلها، وحنّنها الله-جل وعز-عليه، كما ورد الخبر عن نمرود بن كنعان مع النمرة التى حضنته مع جروها. فجفل النسر وحلق طائرا وتركه. ثم إن اللبؤة أرضعته مع شبلها من وقتها. ولم يزل كذلك حتى انتشأ وترعرع، وكبر مع ذلك الشبل، وعادت اللبؤة تكسر لهما من أصناف وحوش ذلك الجبل
وتطعمهما. وشبّ ذلك الغلام وكبر، حتى صار يفترس الأسود بيده، ويأكل لحومها، وعاد كأنه البختى العظيم من عظم خلقه، بوجه كأعظم ما يكون من وجوه السباع، ولا يظن أن ثم خلقا سوى تلك الوحوش، لعدم السالك بتلك الأراضى. وعادت الأسود إذا رأته جفلت منه وهربت، خوفا من شره ولافتراسه إياهم.
قال سليمان بن عبد الحق الأذربيجانى: فبينما هو ذات يوم بسفح ذلك الجبل على شاطئ تلك البحيرة، إذ نظر إلى سبعة نفر من بنى آدم-ثلاثة رجال وأربع نسوة-وهم فى تلك الأرض، والأسود قد دارت عليهم من كل جهة. فنظر إلى أشخاص كشخصه، وشبها كشبهه، وتركيبا كتركيبه، فحنت الجنسية، ومالت الطبيعة الآدمية، فنهض إليهم، وزعق على تلك الأسود الذين قد تجمعوا عليهم، فنفروا منه، لما رأوه. وكذلك أولئك الأشخاص سقطوا على وجوههم لهول منظره، فتقرب إليهم ووانسهم، فتأنسوا به، لما علموا أنه يمنع عنهم أذى تلك الأسود.
وتبينوه فوجدوه آدميّا مثلهم، وإنما غيرت محاسنه الوحشية الربيبة. فكلموه فلم يفهم، بل إنه يزمجر كزمجرة الأسود. ثم إنه تأنس بهم، وعاد يفترس لهم من تلك الأسود والوحوش ويأتيهم به، فيشوون ويأكلون ويطعمونه، فعاد يأكل مما يأكلون.
ولم يزل كذلك حتى فهم وعقل كلامهم. وعادوا يأمرونه بالشئ فيفهم. وسأل بعد ذلك منهم عن أحوالهم، فعرّفوه أن ثم أناس مثلهم كثير فى جميع الأرض، فقال:
«فما الذى أوقعكم أنتم هاهنا، ولم أر من قبلكم غيركم؟» . فقالوا: «نحن تتار» ؛ معنى ذلك-أى تائهين عن أرضنا- «وأن قوما من جنسنا غلبوا علينا، وقتلونا، وأخرجونا من ديارنا، فخرجنا هاربين، لا ندرى أين نتجه، فوقعنا فى هذه الأرض تتار، أى تائهين» . فهذه أصل كلمة قولهم التتار.
قال: وكان فى جملتهم بنت، فعلق بها ذلك الشخص الوحشى، وواقعها، فولدت منه غلاما، فسموه أهله «تتار خان» -تفسيره الملك التائه-وسموا أبوه ذلك الشخص الوحشى «ألب قرا أرسلان بلجكى» معنى ذلك وتفسيره «فرخ الأسد الأسود» . ثم توالدوا وتناسلوا، وكثروا وقتلوا تلك الأسود الذين فى تلك الأراضى، وأكلوا لحومها. وولد لتتار خان ولد فسماه قرا أرسلان بلجكى-على اسم جده.
ثم ولد لقرا أرسلان بلجكى ولد، فسماه تتار خان كشكرى تفسيره «تتار خان الصغير» .
وهو أول من صنع الشبابة التركية المسماة بلغتهم «صبرغوا» ، وصنعها لمشاكلة حس تلك الطيور التى بتلك الجزائر، فكان يعدى إليهم، ويصفّر بتلك القصبة، فتجتمع عليه الطيور من سائر نواحى الجزائر، فيصيد منها ما شاء أن يصيد. ثم ولد لهذا تتار خان كشكرى أولاد ثلاثة جكز خان، وأغزّ خان، وأطن خان.
قال سليمان بن عبد الحق: فهؤلاء الثلاثة أصول سائر بطون التتار، وانقرض ما سواهم. وتوالدوا، وكثر نسلهم فى تلك الأرض، وتفرقوا حول تلك البحيرة، وليس لهم ما يأكلوه غير وحوش ذلك الجبل، مع ما تنبت تلك الأراضى من أنواع النباتات. ثم ولد لجكز خان اثنا عشر ولدا ذكرا، فكان الأكبر فيهم يسمى تتار خان بيغو، وكان أعظمهم خلقا، وأقواهم بطشا، وأشجعهم نفسا. وكان يسطو على الأسود بغير سلاح، فيملكها بيده. وكان لما علموا أهل تلك الديار أن تلك الأرض خلت من تلك الوحوش الضارية، وأن عاد بها سكان وقطّان، ترددوا إليها، ونازلوا أهلها. ودخلت التتار تحت طاعة ذلك الملك المسمى ألطن خان، وعادوا يعبرون إليه، ويتقربون إليه بغرائب تلك الوحوش التى بذلك الجبل، وينعم عليهم بما يمونهم من قوتهم. وتخلقوا بأخلاق الآدميين قليلا، وإنما الغالب عليهم أنهم كالأسود. وعاد لهم الخيل والمواشى. ومات كبارهم.
وولد لهذا تتار خان بيغو ولد فسماه جكز خان وهو جكز خان تمرجى، يعنى الحداد. وسبب تسميته بالحداد، أنه كان يتردد إلى مدينة أيدرماق، وصحب بها رجلا حدادا، فتعلم منه عمل نصول السهام، فكان يأخذ منه الحديد ويعود إلى أهله فيصنع نصول السهام، ويعبر بهم إلى تلك المدينة على رأس الحول، فيبيعه ويمتار لأهله وولده ما يمونهم مما يحتاجون إليه من الحول إلى الحول.
قال: لقد نظرت إليه لما فتح أذربيجان-بلدنا-بعد هزيمة السلطان علاء الدين خوارزم شاه منه فى أقطار الأرض، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه، فكان من صفته أن وجهه كدور الترس، ورأسه كرأس البعير، يشعل من وجهه النار، ورأسه بين كتفيه من غير عنق، يظهر له سناط، لم يكن بوجهه إلا شعرات تستره.
ونظرت إلى زنوده شبه أكارع البعير الجيد. ورأيت حوله جماعة يقاربون صفته، لكن لم يكن فيهم من هو أهول منه منظرا. فلم أملك نفسى دون أن سقطت إلى الأرض هيبة منه. ثم منّ الله علىّ بالخلاص.
قال: وولد له أربعة وعشرون ولد، فكان أكبرهم يسمى بيشخان. وكان قد أتى فى خلقة جده تتار خان بيغو وشدته وشجاعته وقوة نفسه، فعاد يلعب بالطير المسمى طغريل. وكان للملك الكبير ألطن خان عدة أولاد. وكان ولى عهده يسمى كمش خان. وكان من عادته أنه يخرج فى كل عام إلى أرض التتار يتصيد ويتنزه، ويقيم مدة، ثم يعود. وكان جكز خان، وأولاده، وكبار بنى عمه يلقونه ويكونون فى خدمته، حتى يعود إلى مدينته، بعد ما ينعم عليهم ويعطيهم الخيول والمواشى وغير ذلك. وكانت المسافة بين مدينة أيدرماق وبين ديار التتار التى هم بها نزول أربعين يوما.