الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة أربع وعشرين وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير مؤيد الدين بن العلقمى.
وسلطان مصر الملك الكامل ناصر الدنيا والدين محمد بن السلطان الملك العادل.
وصاحب دمشق والكرك وعجلون-مع الشام-الملك المعظم عيسى بن العادل.
وصاحب الشرق-أخلاط وحران والرّها وسنجار-الملك الأشرف أخوهما.
وصاحب ميافارقين وأعمالها شهاب الدين غازى بن الملك العادل أيضا.
وصاحب قلعة جعبر وأعمالها-وما ينسب إليها-الحافظ أرسلان شاه.
وصاحب بصرى وأعمالها-وما هو منسوب إليها-الصالح إسماعيل أبو الخيش.
وسلطان الروم علاء الدين كيقباذ السلجوقى بن كيخسرو السلجوقى.
وصاحب الموصل وجزيرة ابن عمر الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ النورى.
وسلطان العجم جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه.
وصاحب بعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن أيوب.
وصاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شير كوه.
وصاحب حماه الملك الناصر بن الملك المنصور، المقدم ذكره.
وملك التتار جكزخان، وهو يتجهز الجيوش لحرب جلال الدين.
وصاحب اليمن والحجاز الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل.
وصاحب المغرب أبو يعقوب بن عبد المؤمن، المقدم ذكره فيه.
وفيها وسّع السلطان الملك الكامل على جميع المدارس، وجميع الرباطات والخوانق.
وجعل فيهم سماطات تمد، وأطلق لكل فقيه الخبز واللحم والحلوى والسكر.
وفى شهر شوال من هذه السنة كان طهور الملك العادل بن السلطان الملك الكامل. وركب السلطان وجميع العسكر، ومدّ سماطا عظيما بالميدان الذى تحت القلعة. ثم توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية فى ذى القعدة.
وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الإفرنج على الملك المعظم صاحب الشام، بعد اجتماعه بالملك الكامل، بطلب الفتوح الصلاحى. قال أبو المظفر: وأغلظ له المعظم فى الجواب، وقال:«قل لصاحبك ما أنا مثل الغير ما له عندى إلا السيف» .
وفيها كانت الوقعة بين التتار وبين السلطان جلال الدين. وكان أولاد جلال الدين وحريمه بتبريز. وبلغه أن التتار قاصدين أصبهان، فخشى على أولاده وحريمه، وقصد ردهم عن مقصدهم، فوصل إلى أصبهان، وأزاح أعداد الناس من العدد والسلاح. ثم جرد أربعة آلاف فارس إلى مدينة الرىّ ودامغان برسم الترك الذين هناك، فكانت الأخبار تصل من جهتهم يوما بعد يوم، وهم يتأخرون، والتتار يتقدمون، إلى أن وصلوا إلى عند السلطان جلال الدين، وأخبروه بذلك، وعرفوه بما فى عسكر التتار من الفرسان والشجعان، مثل ياجى نوين، واسطمغان، وجنكز نوين، وأرشاق بغان، وغيرهم. وهؤلاء المذكورين كانوا جمرة التتار الوقادة، وصاعقتهم المحرقة. ثم وصل التتار المذكورون فى جموع كثيفة، ونزلوا شرقى أصبهان. وكان المنجمون قد أشاروا على السلطان جلال الدين بمصابرتهم ثلاثة أيام، بعد نزولهم، ويكون الملتقى فى اليوم الرابع. فلزم البلد يترقب مضى
الثلاثة أيام. وكان الناس اضطربوا اضطرابا عظيما، وكثر انزعاجهم من التتار، والسلطان يظهر قوة النفس، وشدة البأس. ثم إنه استحلف جيوشه أنهم يختارون الموت على الحياة، ولا يولون الأدبار، ثم حلف هو أيضا كذلك، تبرعا منه وإحسان. ثم إنه عيّن لهم يوم المصاف، وأحضر قاضى أصبهان ورؤساءهم، وأعرض الرجال من عامة أصبهان، وفرّق عليهم العدد. وهؤلاء أهل أصبهان لا يقاسون بغيرهم من أهل الأقاليم، لما فيهم من الشجاعة والشدة وقوة البأس.
ولما رأى التتار أن السلطان أبطأ عنهم، وتقاعد عن خروجه إليهم، ظنوا أنه امتلأ منهم رعبا وخوفا، فجردوا ألفى فارس منهم إلى الجبال، ليجمعوا لهم ما يمونهم للحصار، فدخلوا الجبال التى فى أعمال أصبهان. فبلغ السلطان جلال الدين ذلك، فجرد خلفهم ثلاثة آلاف فارس، يأخذون عليهم فم المضيق. فلما انصرفوا من المغارة، واقعوهم. ونصر الله الطائفة الإسلامية عليهم، وقتلوا منهم جماعة، وأحضروا منهم أسرى، فسلموا منهم جماعة للقاضى، فقتلوهم فى شوارع المدينة، وضرب السلطان رقاب بقيتهم بين يديه فى صحن الدار، وجروهم إلى ظاهر المدينة. فلما كان اليوم الرّابع خرج السلطان، ورتّب الجيوش للمصافّ. فلما تراءى الجمعان، خذله غياث الدين أخوه، وفارقه بجيشه، وتبعه جهان بهلوان، لوحشة حدثت فى تلك الساعة. وتغافل السلطان عنه. وامتدّت عساكره، ووقف التتار أطلابا متفرقة مترادفة قبال السّلطان. وكان عسكره أضعاف التتار، وتباعد ما بين الميمنة والميسرة، حتى عاد لا يعرف حال الواحدة من الأخرى. ثم حملت ميمنة السلطان على ميسرة التتار، فشالوها شيلا، وانهزمت التتار بين أيديهم، وكذلك فعلت الميسرة بميمنة التتار. ولم يزل السيف يعمل فيهم إلى المساء. ورأى السلطان انهزام التتار، فترجل وسجد شكرا لله تعالى، ونزل على حافة جرف كان فى المعركة قاطع بينه وبين العدو،
فأتاه أحد أمرائه، وقال: «قد تمنينا دهرا أن نرزق يوما نفرح فيه مثل هذا اليوم.
وأنت جالس!». ولم يزل به حتى ركب، وقطع النهر، وكان آخر النهار. فلما شاهد التتار السواد الأعظم، تجرد جماعة من شجعانهم، وكمنوا لهم وقد أجنحت الشمس للغروب. ثم خرجوا على السلطان يدا واحدة، كالنار المحرقة، والصاعقة المبرقة.
وكان خروجهم على ميسرة السلطان، فلم يكن بأسرع أن زالت الأقدام وانهزموا.
ولم يبق مع السلطان غير ثلاثة نفر، وهم: كوج تكين، وبهلوان، وخان بردى.
وقتل من الأمراء أياخان، وكندكين. وماج الفريقان بعضهم فى بعض كالجراد المنتشر. وأسر فى ذلك الوقت علاء الدولة والحاجب الكبير. وثبت السلطان جلال الدين فى القلب، وقد تبدد شمله، وانحل نظامه، وتفرقت جيوشه وأعلامه، وأحاطت التتار به من كل جهة، فصار المخلص من تزاحم الأخلاط أضيق من سم الخياط. ولم يبق معه غير أربعة عشر نفر من خواص مماليكه، فانهزم بعد ذلك وقد طعن طعنة ما سلم منها إلا بحراسة الأقدار وتحصين الأجل. ثم أفرج له المضيق عن سعة الطريق، فمرق من بين الجيوش والأطلاب مروق السهم والنشاب. وتفرقت جيوشه فى الأقطار كل فرقة تطلب إقليما للنجاة، فمنهم من وقع إلى فارس، ومنهم من امتدت به الجفلة إلى كرمان، ومنهم من قصد أذربيجان، ومنهم من دخل أصبهان. وعادت ميمنة السلطان بعد يومين وهم يظنوا أنهم منصورون. والتتار أيضا أكثرهم انهزم، ولا رجع إلا بعد مدة. فلم يسمع بمثلها وقعة لانهزام الفريقين.
وهمت عامة أصبهان أن يمدوا الأيدى إلى عورات نساء الخوارزمية وإلى أموالهم، فمنعهم القاضى والرئيس من ذلك. وكان هذا المصافّ فى الثانى والعشرين من شهر
رمضان المعظم من هذه السنة. ثم إن السلطان جلال الدين دخل أصبهان ونجا إليها متحصنا فلم يبلغوا فيها أرب، فتوجهوا إلى خراسان، فوجدوا قافلة فيها جماعة من التجار بأموال جمة، فأخذوها وأطلقوا التجار من غير قتل، وقاموا يخربون ويأسرون من وجدوه.
وفيها توفى الملك المعظم عيسى صاحب دمشق-كما يأتى ذكره فى تاريخه.
وبعد هذه الوقعة جهز جكزخان طائفة من التتار إلى خوارزم. وكان أهل خوارزم رجال شجعان لا يعرفون الموت، فنزل التتار عليها، وأقاموا بقية هذه السنة يحاصرونها، وقتل من الفريقين عالم عظيم. وكان القتل فى التتار أعم وأكثر.
وأقاموا عليها خمسة أشهر. فلما عجزوا عن أخذها بعثوا إلى جكزخان، فأنجدهم بعسكر كثيف، وفيهم من أهل البلدان عالم عظيم. ثم إنهم زحفوا على البلد يدا واحدة فأخذوها، وقتلوا جميع من كان بها، ونهبوها. وفتحوا الجسر الذى كان يحجب جيحون عنها، فغرقت.
وتوفى الملك المعظم شرف الدين عيسى-رحمه الله-فى شهر ذى القعدة من هذه السنة، وله من العمر على ما ذكر سبع وأربعين سنة.
وكانت مدة ملكه لدمشق-استقلالا بعد أبيه العادل-تسع سنين وشهورا.
وكان رحمه الله ملكا جليلا شجاعا مقداما. وكانت مملكته ما بين حمص وعريش مصر. وكان عسكره قريب أربعة آلاف فارس، ولم يكن عند أحد من إخوته جند مثلهم فى فرط تجملهم وحسن زيهم. وكان بهذا العسكر القليل يقاوم إخوته. وكان الملك الكامل يخافه ويتحاماه لميل عسكره إليه ومحبتهم له. وكان كثير التواضع جدّا يمشى وحده بغير طرادين، إذا فعل فعلا كان بغير تكلف حتى ضرب به المثل فيقال:
معظمى بلا كلفة.
وكان شيخه فى الفقه الشيخ جمال الدين الحصرى.
وكان سائر ملوك بنى أيوب كلهم شافعية، وانفرد هو من بينهم بالانتماء إلى مذهب أبى حنيفة. وقال له والده ذات يوم فى ذلك ولامه، فقال لأبيه على سبيل المداعبة:«ياخوند ما ترضون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم» .