الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر أصبعا.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم ببلاد العجم.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو فى قتال الفرنج على عكا. والحصار باق، وقد ضعف حال المسلمين الذين بعكا، وقل جلدهم، ونفد صبرهم. فلما كان يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة من هذه السنة نفّذ أهل عكا من المسلمين يقولون للسلطان:«نحن والله قد عجزنا عن القتال، وقد بلغنا غاية لا بعدها غاية، ولم يكن بقى لنا غير التسليم. ونحن نهار الغد نسلّم إليهم ونطلب الأمان إذا لم تفعلوا معنا شيئا يخلصنا مما نحن فيه» . فكان ذلك أصعب شئ جرى على السلطان.
قال الفقيه الهكارى راوى هذا الحديث: «والله لم يستطعم السلطان بطعام ذلك اليوم مع تلك الليلة» . فلما كان صبيحة ذلك اليوم، ركب السلطان صلاح الدين فى سائر الجيوش، وقصد الفرنج، ووصل إلى حيث وقف بخنادقهم، وزحف حتى دخل بعضها، وهو كالوالدة الثكلى على ولدها، ويسير بين العساكر ويحثهم على القتال، وينادى:«يا للإسلام! يا لدين محمد عليه السلام!» وعينيه تذرفان بالدموع. ودام ذلك اليوم ولم يقدر المسلمون على شئ يفعلوه مع الفرنج. وسبب ذلك أن الرجال من الفرنج لبسوا العدد، ووقفوا فى سائر السور من خارجه ومن داخله، بالشروخ والزنارات، والنشاب. ثم إن الملاعين جدوا فى الحصار، وتمكنوا من الخنادق
فملكوها، ونقبوا أسوار البلد وحشوه خشبا وأحرقوه، فوقعت الباشورة وهى بدنة السور، فدخل الفرنج إليها وقتلوا من المسلمين جماعة، وقتل المسلمون من الفرنج خلقا عظيما من جملتهم ست ملوك، وقبضوا على أحد ملوكهم الكبار فى بعض الثقوب، فقال لهم:«لا تقتلونى وأبقونى أرحل عنكم الفرنج» . فلم يرجعوا له وقتلوه. فلما بلغ الملاعين قتل ملكهم التزموا أنهم لا يبقوا فى عكا من يقول «لا إله إلا الله» .
ثم جدوا فى الزحف ثلاثة أيام جدا عظيما. كل ذلك حزنا على ملكهم.
ثم إن السلطان صلاح الدين بعث إليهم سيف الدين المشطوب يطلب الصلح منهم.
وفى جملة كلامه: «إنا نحن أخذنا منكم بلادا كثيرة وحصونا كثيرة وإنا لم ننزل على بلد ولا قلعة وطلبوا منا الأمان والصلح إلا أجبناهم لذلك. فافعلوا أنتم أيضا كذلك» . فما كروا السلطان، وسيروا يطلبوا منه القاضى نجيب الدين المالكى ليقرروا أمر الصلح بينهم، وكان ذلك كله مكر منهم وخديعة، حتى يشغلوا السلطان عنهم، ويتمكنوا من أخذ البلد. فلما كان يوم الجمعة، وصل عوام من البلد بكتاب من أهل عكا يقولون:«أن قد ضاق الأمر، ولا بقى لنا خلاص، وقد طلب منا الفرنج مائتى ألف دينار، وألفى وخمسمائة أسير، وثلاثة آلاف ثوب أطلس، وصليب الصلبوت، على أننا نخرج بنفوسنا، لا سواها» . فلما وقف السلطان على ذلك أنكره، وعظم عليه. فبينما هو كذلك إذ وقعت الضجة، ورفعت أعلام الشرك على أبراج البلد، وصرخ الملاعين صرخة واحدة تزلزلت لها الأرض. وكان ذلك يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة. فعظم ذلك على المسلمين، وكثر قول:«لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» .
وعن القاضى بهاء الدين بن شداد-صاحب سيرة السلطان صلاح الدين-قال:
وصلت إلى السلطان صلاح الدين فى ذلك الوقت الذى أخذت فيه عكا، فوجدته يبكى بكاء عظيما، فجلست إليه، ثم ذكرته بما فتح الله عز وجل على يديه من بلاد
الكفر، وما قتل من رجالهم، فنظر إلىّ وهو مخنوق بعبرته، وقال:«كيف لى بخلاص المأسورين من أيدى المشركين؟» .
ثم أمر بالرحيل من تلك المنزلة إلى المنزلة الأولى [بشفرعم]. وجرد ألفى فارس فى مكانه لينظروا ما يكون من أمر البلد والمسلمين المأسورين. وكان فى جملة المأسورين بهاء الدين قراقوش الأسدى، الذى بنى سور القاهرة، وعمل الروك بالديار المصرية، فأفدى نفسه بجملة كبيرة. ثم إن الملاعين قتلوا سائر من كان بها من المسلمين، إلا من كان فى أجله تأخير.
فلما كان نهار الخميس سلخ جمادى الآخرة، ركبوا الملاعين، خيلا ورجلا، واصطفوا ميمنة وميسرة، وتواقعوا مع يزك المسلمين، فأردف السلطان اليزك بعشرة آلاف فارس، فكسروا الملاعين، وتبعوهم إلى خندقهم. فلما كان ثامن رجب الفرد، حضر صحبة حسام الدين حسين بن باريك المهرانى فارسان من الفرنج من عند الملك الكبير ملك الفرنج، فقدموا بين يدى السلطان، وسألوه عن صليب الصلبوت الذى أخذه من بيت المقدس، وقالوا:«إن وجدناه تحدثنا فيما يعود نفعه على الطائفتين، ويكون فيه المصلحة» فأمر السلطان بإحضاره. فلما عاينوه، خروا له ساجدين على وجوههم، ومرغوا خدودهم على الأرض، ثم عادوا إلى ملكهم.
ولما كان الحادى والعشرين من رجب، خرج الملك الأنكتير-لعنه الله-ومعه جماعة من الخيالة، وساروا نحو تل العياضية، ثم أحضروا جماعة من أسرى المسلمين، ممن كانوا بعكا وسلموا ذلك اليوم من القتل. فأراد الله لهم بالشهادة، وختم لهم بالسعادة، وأوقفوهم، وأرموا فيهم السيف. فلما نظر المسلمون بوارق السيوف، ساقوا نحوهم، ثم أعلموا السلطان بذلك، فركب، وركبت العساكر، وركب الفرنج بأجمعهم من عكا. والتقى الجمعان، وقتل بينهم خلق كثير. وكانت وقعة شديدة،
انكسرت الفرنج فيها كسرة عظيمة. وذكر أن عدة من كان بعكا من المسلمين ممن قتل سوى من نجا خمسة آلاف نفر وسبعمائة نفر. ولما كان نهار الأحد ثالث ذى القعدة رحل الفرنج إلى الرملة، وتوجهوا لبيت المقدس. ثم كان بينهم وبين المسلمين وقائع وحروب يشيب لهولها الطفل الوليد.
ودخل الشتاء وقويت الأمطار إلى سبع بقين من ذى الحجة وصل السلطان صلاح الدين إلى القدس الشريف. ونزل بدار الأقساء مجاور كنيسة قمامة. وكان قد وصل فى ثالث ذى الحجة عسكر مصر مع أبى الهيجاء. فلما بلغ الفرنج ذلك تحولوا إلى النطرون. ثم كان بينهم وبين المسلمين-وهم اليزكية-وقعة. ثم كان بينهم وبين الأمير سابق الدين صاحب شيزر وقعة عظيمة، انكسرت فيها الفرنج كسرة شنيعة، وتسلقوا فى الجبال، وأخذت خيولهم. وحاصرهم المسلمون فى قلعة النطرون. ثم وصل عدة من الحجارين من عند صاحب الموصل بسبب تحصين خندق بيت المقدس. وعمل السلطان صلاح الدين بنفسه فيه، وكذلك سائر الملوك مع كافة الجيوش.
وفى هذه السنة توفى القاضى شرف الدين بن عصرون قاضى القضاة بدمشق، وكان أوحد أهل زمانه فى الأربع مذاهب.
وفيها ظهر بمصر رجل منجم يقال له ابن السنباطى، فأقلب رءوس السودان وقوم من المغاربة يقال لهم «المصامدة» ، وقال لهم:«أنتم تملكوا الديار المصرية فى الليلة الفلانية بعد المغرب» . فاستعدوا بقوارير نقط، واجتمعوا بحارة بر المدينة، وهى الهلالية، وشربوا المزور إلى بعد العشاء، دخلوا حمية واحدة من باب زويلة، وأخذوا ما قدروا عليه من العدد، وأتوا إلى خزانة البنود ليخرجوا من كان بها من المسجونين، وهم مع ذلك يصيحون:«يا آل على» . وأتوا إلى السيوفيين، وكسروا الدكاكين،
وأخذوا السيوف والعدد. ثم ركب الأمير بدر الدين بن موسك بعسكره، فمسك الجميع، والمنجم، وقتلوا عن آخرهم.
وفيها أخرب السلطان صلاح الدين عسقلان.
وفيها توفى الملك المظفر تقى الدين عمر، وهو محاصر لملاذكرد، وذلك يوم الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر رمضان المعظم. وكان ولده الملك المنصور فى صحبته، فأخفى موته، وعاد به إلى مدينة حماه، فدفن بها. واستقر [الملك المنصور] بملكه-حماه وما معها. وخرج عنه ما كان بيد أبيه من بلاد الشرق، واستقر بها الملك العادل سيف الدين أبو بكر، حسبما نذكر من ذلك. وفيها توفى الشيخ نجم الدين الخبوشانى الشافعى، رحمة الله عليهما.